× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

يحدث في دمشق: كان يا مكان.. يا أيوب ويا رمضان!

حكاياتنا - ملح 16-05-2020

لطالما كان رمضان يعني «لمة العائلة». ها هي العائلة الآن تمضي جميع أيامها حول مائدة واحدة، بسبب «كورونا» أو غيره. مع ذلك؛ كثيراً ما نسمع أن «رمضان هذه السنة بلا روح». يروي لنا درويش بعض حكاياته مع ابنه أيوب في شهر رمضان، ويضع بين أيديكم أسئلة ابنه التي لم يتمكن من الإجابة عنها. المادة توثيقية من وجهة نظر الكاتب، وأي تشابه بينها وبين الواقع هو تعمّد محض وليس من قبيل المصادفة.

حول ثلاث طاولات خشبية صغيرة متلاصقة، تجمعت العائلة بأكملها في منزلنا بريف دمشق. ها نحن ننتظر رفع أذان المغرب كي نبدأ تناول طعام الفطور.
أبي، أمي، إخوتي، زوجتي، وابني أيوب، وكل من كان في الصورة الجماعية المعلقة على الخزانة، جميعنا حول الطاولات غير المتجانسة. 
بدأنا بالتمر والماء كما هي العادة، ورحنا نتابع بهدوء لوحات من مسلسل بقعة ضوء على قناة سما الفضائية. 
في كل عام من أعوام الحرب، كنا نسمع عبارة من قبيل «رمضان هذا مختلف عن كل السنوات السابقة»، وعادة ما كان وجه الاختلاف مرتبطاً بمدى قسوة الحرب أو المعارك الدائرة في الأرجاء، وارتفاع أو انخفاض وتيرتها.
في إحدى السنوات التي خلت، أمضينا معظم شهر رمضان في القبو، تجنّباً للقذائف والصواريخ. 
رمضان آخر أمضيناه متنقلين من بيت إلى بيت، ونازحين مسرعين بما علينا من ثياب. 
هكذا كانت الحرب تترك وصمة على كل سنة، حتى صارت لدينا تشكيلة واسعة من الحكايات التي نتمنى أن تصبح ذكريات قديمة لنحكيها لأبنائنا، هذا إن لم نسبقها ونصبح ذكريات قبلها.
ينهي المؤذن أذانه مسرعاً، من دون دعوات وترتيلات نسمّيها باللهجة المحلية: «تدكير» وهي تعني التذكير بالله، ويختم بعبارة «أيها المؤمنون، صلّوا في رحالكم.. ابقوا في منازلكم»، ليذكر الجميع بأن لا تراويح ولا صلاة جماعة هذه الليلة أيضاً.
لم يفهم ابني الصغير هذه العبارة. شرحتها له، بعد أن أخبرته بأنني وقد بلغت الأربعين، أسمعها هذا العام للمرة الأولى في حياتي.
«إذاً رمضان هذا مختلفٌ عن كل ما سبق؟» يسأل ابني أيوب.

ليست صلاة التراويح فقط، بل كل أجواء الشهر الفضيل غابت هذه السنة عن ملامحه وتفاصيله، ليبدو رمضان غريباً عنّا بالفعل، رغم أننا نفطر في كل أيامه حول مائدة واحدة وهو ما لم يحدث سابقاً أبداً، إذ كنا عادة ما نتقاسم موائد الأصدقاء والأهل والأقارب، ولا يبقى لمائدتنا سوى بضعة أيام.
يُكثر أيوب من الأسئلة التي أخجل أن أجيب عنها بعبارة «ما بعرف». ها هو يصوب إليّ سؤالاً آخر: «أليس رمضان لمّة العائلة؟»، وأصمت.

رمضان الناعم
في مساء اليوم التالي نعاود تجميع الطاولات الخشبية. تبدو إحداها أقصر من شريكتيها، فنضع خشبات عدة تحت الطاولة الواطئة، حيلة بسيطة تعلمناها من الجدات اللواتي اعتدن إدارة الشؤون المنزلية «بالمسايسة». على المائدة سلطة من دون بندورة أو ليمون، ورز، وفول، ولبن.
هناك أيضاً قطعة معروك، يتناقلها الجميع لينال كل فرد لقمة واحدة، وسوف تنتهي القطعة قبل أن تصل إلي غالباً.
يغيب الناعم هذه السنة عن موائدنا أيضاً، إذ تراوح سعر الطبق الواحد منه ما بين 800 و1000 ليرة سورية، بعد أن كان الفاخر منه في العام الماضي بـ 400 ليرة.

بسبب كورونا أغلق مقهى النوفرة أبوابه للمرة الأولى منذ 500 عام!

يعود أيوب إلى مداخلاته الصعبة، ويقول «عم يقولو الناعم بالشام بألف وخمسمية»، في مناورة واضحة منه للقول إنه في الغوطة أرخص. قررتُ بالفعل أن أشتري طبقاً يوم غد. 

أين المفتاح؟
كنت قد وعدت أيوب قبل أشهر بأن أصطحبه إلى المدينة، ليشاهد حكواتي النوفرة للمرة الأولى في حياته. 
لم يستطع أيوب تخيّل معنى الحكواتي، وشكله، وكيف يروي الحكايات للناس. إذ اعتاد الفتى المشاكس أن يسمع الحكايات قبل النوم في فراشه الممدود على أرض الغرفة، وليس في المقهى أمام الجميع.
«كمان ما في حكواتي؟» يطرح سؤاله بحسرة، وهو يتوقع إجابته مسبقاً.
في صباح اليوم التالي، وأثناء تجوالي في سوق العصرونية بدمشق للتبضع وشراء بعض الحاجيات، عرجت على الجامع الأموي الموصدة جميع أبوابه. 
عبرت تحت القوس باتجاه مقهى النوفرة. إنه مغلق بالفعل، وقد خلت باحته من الكراسي الخشبية، فبدا المكان غير متوازن في نظري، والمشهد غير مألوف.
صادفت أحد العاملين في المقهى وهو يتفقد ساعة الكهرباء، واستوقفته:
-       إيمتة ح ترجعوا تفتحوا؟
-       بس الله يفرجها
-       مطولين يعني؟
-       والله هي أول مرة منسكر.. ما بعرف شو بدي قلك يا أخي. بتصدق بالله؟ وقت إجينا لنسكر الباب صرنا ندور على المفتاح دوارة. هي أول مرة منقفل باب النوفرة بحياتي. قال لي معلمي إنو النوفرة ما تسكرت من 500 سنة.

حديث المطابخ
إلى جانب غياب التراويح والناعم والبندورة والحكواتي عن رمضاننا هذا، غابت «السكبات» اليومية المتبادلة بين الجيران، بسبب حظر التجول. عادة ما كانت الأطباق الساخنة تصل عند موعد الإفطار تماماً، لكن حظر التجول بدا ذريعة جيدة لعدم تجديد هذه العادة. ويبقى السبب الحقيقي (ارتفاع الأسعار وشحّ الموارد) هو الحديث الذي يدور في المطابخ، وتخجل الأمهات والزوجات من خروج هذا البوح او الاعتراف من النوافذ أو الشرفات، أقصد ما تبقى من شرفات.
بنظرة سريعة، يُدرك المرء أن الأسعار في رمضان 2020 زادت بنسبة تقارب 120% عن رمضان 2019.
يسألني أيوب بمعدل مرة واحدة كل يومين:
-       يا بي.. كيف الناس عم تدبّر حالها؟
-        والله ما بعرف يا ابني.. بيعين الله

القاتل المتسلل

يُسجل لرمضان الحالي، أنه الثاني على التوالي الذي يغفو فيه سكان العاصمة ومحيطها على أصوات المسلسلات (إذا كان في كهربا) ويستيقظون على صدى المؤذنين فجراً.
غابت أصوات المدافع وحديث القذائف وعبارات القصف، وتوقّف عداد قتلى الرصاص والحديد والنار، لتعود قوائم الوفيات إلى حالتها شبه الطبيعية، تضم أولئك الذين يموتون كلّ يوم «لأنو عمرهم خلص»، أو بحوادث السير والأمراض المختلفة، وإن زادت في الآونة الأخيرة نسبة الوفيات بمرض «ذات الرئة».
في «الرمضانات» السابقة، كانت القذائف تمطر دمشق وغوطتها على حدّ سواء. مع ذلك، كانت عجلة الحياة تدور غصباً، وبسرعة متفاوتة بحسب شدة القصف، لكنها لم تتوقف يوماً.
أما الآن، فالعجلة متوقفة منذ شهرين تقريباً، والفايروس المستجد تقنّع بقبعة الإخفاء التي ارتداها، وصار شفافا لا ترى له صورة، ولا يسمع له صوت.
يتسلّل من تحت الكمامة إلى المعدة مباشرة، فلا يصيب الجهاز التنفسي بقدر ما يصيب الأمعاء الخاوية، ويصدر صوتاً أقرب لعواء الريح بين الجبال المرتفعة والسهول الخالية من الأشجار والثمار.
في الأثناء، يُتابع ابني من خلال هاتف أمه عدداً من صفحات التواصل الاجتماعي. يقلب عدداً من الصور الملتقطة في المدينة الجامعية، ويسألني باستغراب «بابا.. شو يعني حجر صحي؟»

<Embed from Getty Images


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها