× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

التحوّلات الإندونيسية: بعيداً عن العسكرة.. وفي صلب اللامركزية

عقل بارد - شعوب وحروب 10-11-2022

في آخر حلقات المقاربة بين الحالتين الإندونيسية والسورية، تظهر طبقة المعارضة الجديدة التي أنتجتها الاحتجاجات، وقادت إلى الانفجار العنيف، وفرضت بدائل وخيارات لم تستطع المعارضة التقليدية القديمة التأثير فيها، فيما تشابه ردّ فعل الجيش، وإن نسبياً، تجاه الواقع الجديد، بين من حافظ على ولائه، ومن رفض الانخراط في القمع، ومن انشق

الصورة: (من احتفالات اليوم الوطني الإندونيسي 2014 / Fanni Faizal - فليكر)

يُظهِر سياق الأحداث في جاكرتا أنّ الاحتجاجات لم تنتج انتصار طرف على آخر، بقدر ما أنتجت قوىً جديدة بدأت تحتل مكانها في سياق التوازن الأكبر بين النظام والمعارضة القديمة، وقد فرضت هذه القوى الجديدة التفكير لدى الطرفين في أفضل البدائل الممكنة في ظلّ المعطيات الموجودة.

في سوريا، نتذكر أنّ السلطات والمعارضة التقليدية، وجدا نفسيهما أمام قوى جديدة في الشارع غير محسوبة على أحد بشكل واضح (قبل تطييف الحراك)، ولم تكن هذه القوى ذات تنظيم مضبوط أو صاحبة وعي سياسي ناضج، وهو ما أسهم في عسكرة الحراك.

الجيش في المعادلتين

في الحالة الإندونيسية، لم يدافع الجيش باستماتة عن الرئيس محمد سوهارتو، لكنه كان قلقاً من توترات تلك المرحلة التي اتخذت شكل عنف مجتمعي وتصاعداً محموماً للهويات الدينية والعرقية والانفصالية الإقليمية، مثل حالات العنف في تيمور الشرقية وإقليم آتشيه، إضافة إلى تجدد النزاعات بين المسلمين والمسيحيين. 

مثلما حدث في الجيش السوري، اختلفت ردود الفعل داخل المؤسسة العسكرية في إندونيسيا، فهناك من تورّط في العنف، وهناك من رفض أوامر القمع، وثمّة من انشق عن المؤسسة. 

في إندونيسيا قاد هذا التباين إلى التريث في الوقوف ضد مطالب المحتجين، خاصة أنّ ثمة تاريخاً دموياً للجيش لم ينسه الإندونيسيون، إضافةً إلى مركزية حضور الجيش في أجهزة الدولة المختلفة والاقتصاد وفقاً لعقيدة «الوظيفة المزدوجة».

لم تتمكن قوى المعارضة من إلحاق الهزيمة بالقوى السياسية المهيمنة في الانتخابات التي تلت استقالة سوهارتو، ولكنها بقيت قادرةً على التفاوض بشأن تأمين مصالحها ووصولها إلى السلطة في النظام الجديد. 

الخوف من تفكك الدولة واستفحال العنف على خلفيات إثنية ودينية، لعب دوراً مهماً في توجيه عملية الانتقال الديمقراطي، إعلاءً لمسألة بقاء كيان الدولة موحداً على اعتبارات أخرى 

أضعف افتقار المعارضة الإندونيسية إلى قائد «كاريزمي» قدرتها على التفاوض، وحالت الانقسامات الاجتماعية فيها وافتقادها التخطيط والمطالب الواضحة في عدم اقتراب الجمهور المؤيد للنظام منها.

يضاف إلى ما سبق الانقسام الشديد بين قوى المعارضة الإندونيسية، مع وجود شكوك في صدق ولاء البعض للمعارضة الجديدة، نظراً إلى تعاونهم السابق مع نظام سوهارتو الذي برع عقوداً في استخدام سياسة الترهيب والترغيب. كما برزت خلافات أخرى بين المعارضين حول شكل الدولة المقبلة، ونظام حكمها، وإعطاء الصدارة للدين أم الهوية الوطنية، فضلاً عن خلافات أخرى عديدة.

حينما استقال سوهارتو واختير نائبه للرئاسة، عادت الأمور إلى طبيعتها، أي إلى القواعد القديمة في الحكم. وتزامن ذلك مع تشكيك القادة الديموقراطيين في المطالب الراديكالية للحركة الشعبية اﻹصلاحية، التي كانت تمثل مصالح الطبقات الدنيا، في حين كان أولئك القادة جزءاً من نظام سوهارتو الاقتصادي. فضلاً عن أن الحركة الشعبية كانت فقيرة تنظيمياً وسياسياً، إذ إنّ التدمير المتتابع من السلطات للحركات السياسية - اليسارية واﻹسلامية - أفضى إلى شبه فراغ سياسي في الشارع (مقارنة تفرض نفسها مع سوريا مرةً أخرى).

كانت مسألة «الوظيفة المزدوجة» للجيش أبرز القضايا العالقة في الانتقال الديمقراطي في جاكرتا، إلى جانب جدل حول المركزية مقابل اللامركزية، وصلاحيات السلطة التشريعية مقابل التنفيذية، وأخيراً بناء نظام انتخابي وترتيبات دستورية متعلقة بمسألة الهوية الوطنية.

يلاحظ هنا أنّ هذه القضايا تقترب من المسائل السورية الحاسمة نفسها، وتظهر أنّ الحالتين السورية واﻹندونيسية مرتبطتان بقضية محورية واحدة هي دفع السلطات إلى قبول مشاركة المعارضة في الحكم والانتقال إلى المسار الديمقراطي الحقيقي. 

سيدتان في مسجد الاستقلال في العاصمة الإندونيسية العام 2014 / Arnaldo Pellini - فليكر

الحل المتدرّج

كما لاحظنا في ما سبق، لم تتعرض قوّة النظام لهزّة قوية في إندونيسيا، فالغالبية في البرلمان بقيت لحزب «جولكار» التابع للنظام. من هنا، كان منطقياً البناء على المنجز الموجود دستورياً للانتقال إلى المرحلة التالية، خاصة أنّ الدستور المعتمد وطنياً كان نتاج مرحلة في خمسينيات القرن العشرين تسببت الخلافات فيها على الدستور بين الإسلاميين والعلمانيين في حل سوكارنو الجمعية التأسيسية، وتأسيس الدكتاتورية، فابتكر وقتها ما سماها «الديمقراطية الموجهة»، وهذه تتشابه دون الخوض في التفاصيل مع «نهج الحزب القائد والجبهة الوطنية التقدمية» في سوريا.

لعبت نقطة أخرى دوراً مهماً في توجيه عملية الانتقال الديمقراطي، هي الخوف من تفكك الدولة وظهور العنف من جديد في البلاد على خلفيات إثنية ودينية، وعكست إعلاء مسألة بقاء كيان الدولة موحداً على اعتبارات أخرى أقل أهمية وإن كانت حاضرة خلافاً لما حدث في سوريا.

اختار الإندونيسيون مسار الإصلاح الانتخابي، والانتخابات الحرّة، قبل البدء بعملية طويلة من الإصلاح الدستوري استمرت حتى 2002، واعتمدوا لذلك خطة طويلة الوقت نسبياً، أتاحت قبول مختلف الأطراف لهذه الإجراءات التي لم تمسّ عملياً بمصالح القوى السياسية والعسكرية وقتها، لكنها فتحت المجال للتغيير التدريجي بما يسمح بتحقيق الانتقال الديمقراطي.

في 1999، أصدر مجلس شورى الشعب (MPR) التعديل الأول لدستور إندونيسيا للعام 1945. وعلى مدار السنوات التالية أقرّ تعديلات أخرى، وهكذا حتى العام 2002. على امتداد المرحلة ظهرت إشكالات كثيرة منها عدم وجود خطة واضحة لتحديد العناصر الرئيسية لعملية التعديل الدستوري، ومواعيدها، وكيفية إجرائها، وماذا ستكون النتائج، ورافقها فشل مجلس الشورى في كسب ثقة الشعب بقدرته على وضع الدستور والتعديلات المرافقة.

في سياق عمليات الإصلاح الدستورية، ظهر أنّ التعددية عامل رئيس في تحويل الإصلاحات أمراً ذا قيمة، في ظل نظام حزبي ثابت يشبه النظام الحزبي السوري. من هنا، ظهر الاهتمام بمراجعة قوانين تنظيم الأحزاب والانتخابات وتعديلها جذرياً بالتدرج، وهو ما دفع الرئيس الجديد، بحر الدين يوسف حبيبي، إلى إعلان انتخابات مبكرة خلال عام من استقالة سوهارتو، ووضع آلية لتعديل قوانين الأحزاب والانتخابات والهيئة التشريعية.

على طريق إجراء الانتخابات التي وعد بها الرئيس حبيبي في العام 1999، عُقدت دورة للجمعية الاستشارية الشعبية، وفيها أُجريت بعض التغييرات الجذرية التي حدّت من قوة النظام الرئاسي، وأعطت البرلمان صلاحيات أوسع، كما أُلغيت النصوص المانعة لتعديل دستور 1945 (الديباجة أساساً)، وحُدّدت ولاية الرئيس بفترتين رئاسيتين فقط، وأطلقت حرية الصحافة، ونُص على قواعد تخص حقوق الإنسان، ما يعني أن دستور 1945 بقي أساس الإصلاح الدستوري.

ارتبطت مشكلات الإصلاح بقضايا أساسية داخل الدستور نفسه ارتكزت على جانبين يعتبرهما معظم القوميين حاسمين لهوية البلاد وبقائها، بما في ذلك الجيش: رفض فكرة الدولة الإسلامية، وفرض أيديولوجية الدولة القومية مكانَها (البانكاسيلا: المبادئ الخمسة للبلاد المتمثلة في النزعة الإنسانية، والوحدة الوطنية، والحكومة التمثيلية والعدالة الاجتماعية والتوحيد) الواردة في ديباجة دستور 1945.

لقد خشي العديد من القوميين من أنّ فتح الدستور أمام تغيير حقيقي من شأنه أن يعرّض هوية البلاد للخطر، ورأوا أنّ هذا غير قابل للتفاوض. كانت النتيجة عملية بطيئة وغير منتظمة، واتصفت بالمفاوضات المستمرة وعقد الصفقات، إذ سعى معظم أصحاب المصلحة إلى طريقة لتفكيك دكتاتورية سوهارتو دون الإخلال بهذه المبادئ القومية.

راهبان بوذيّان أمام معبد بوربودور في جزيرة جاوة الإندونيسية العام 2013 / Guilhem DE COOMAN - فليكر

13 عاماً من التعديلات الدستورية

أدّت التعديلات في الإجمال إلى الحصول على نظام سياسي أكثر ابتعاداً عن العسكرة، دون الخلاص منها نهائياً، إذ خفض التمثيل التشريعي للجيش من 75 نائباً إلى 38 في مجلس الشعب، ونسبة عشرة بالمئة في المجالس التشريعية المحلية، مع احتفاظ الجيش بسلطة تحديد مجالات الإصلاح داخل القوات المسلحة، واستقلاله عن المراقبة المدنية، واستمرار تمويل الحكومة المركزية له، ولاحقاً تم تعديل حضور الجيش في البرلمان والمجالس المحلية إلى صفر نواب.

استمرت عملية التجديد الدستوري حتى نهاية 2002، إذ وافقت دورة البرلمان على مجموعة تعديلات دستورية تضع اللمسات الأخيرة على عملية الإصلاح الدستوري، وأبرز تلك التعديلات تمثلت في انتخاب رئيس الدولة عبر الاقتراع السري المباشر، وينتخب الرئيس ونائبه لولايتين متتاليتين في الحد الأقصى، مدة كلّ منهما خمسة أعوام. ترافقت هذه التعديلات بأخرى تخص الأحزاب السياسية واللامركزية التي اعتُمدت من جديد بشكل أوضح وأوسع ومقونن.

ساعدت الخلافات الكبيرة بين النخب الحاكمة في إندونيسيا على دعم موقع النظام القديم في المرحلة الانتقالية الجديدة، خاصة ما يتعلق بطبيعة العلاقات العسكرية-المدنية في قلب الدولة، وهذه الأخيرة كانت عقدة السياسة في تلك البلاد، وهي تتشابه إلى حد كبير مع الحالة السورية، خاصة في الجانب الأمني.

مثلما حدث في الجيش السوري، اختلفت ردود الفعل داخل االجيش الإندونيسي، بين من تورّط في العنف، ومن رفض أوامر القمع، ومن انشق عن المؤسسة

يُعد عهد رئاسة عبد الرحمن واحد (1999-2001) القصير نسبياً مرحلة ذهبية حققت فيها العلاقات العسكرية المدنية ميلاً لمصلحة الثانية، لكن الخلافات بين النخب، عدا التطورات التي شهدتها إندونيسيا وقتها، مثل فقدان تيمور الشرقية العام 1999، واندلاع العنف الطائفي وتوسع الحركات الانفصالية في إقليم آتشيه، لعبت دوراً في عزل الرئيس واحد، والتخفيف كثيراً من الإصلاح العسكري دون العودة إلى النظام السابق.

تبنت إندونيسيا في 1999 نظاماً لا مركزياً في الإدارة على نطاق واسع، وأجرت تعديلات كبيرة على النظام الإداري، تحوّل بموجبها عدد من وظائف المدن إلى المجالس المحلية، ومنحت البرلمانات المحلية الحق في إدارة ميزانيات مدنها ومجالسها، وقد ترافق ذلك مع إصلاح النظام القضائي، وتشكيل الهياكل التمثيلية، وتحديد المسؤوليات الأمنية بوضوح، وهذا كله ساعد في التخفيف من التوترات على مستوى البلاد.

هامش

اتّكأنا في إنجاز سلسلة مقالات التجربة الإندونيسية على عدد من الكتب والمراجع:

  •  A short history of Indonesia, the unlikely nation - Colin Brown - Colin Brown 2003.

  •  Adam Schwarz, A Nation in Waiting: Indonesia's Search for Stability (Colorado: Westview Press, 2000).

  • Donald L. Horowitz, Constitutional Change and Democracy in Indonesia (Cambridge: Cambridge University Press, 2013).

  • Indonesian Constitutional Reform 1999-2002 An Evaluation of constitution-Making In Transition - Denny Indrayana, PH.D.

  • نظرية المباريات ودورها في تحليل الصراعات الدولية ـ حامد هاشم ـ مدبولي للنشر ـ 1984.

  • تصميم الدساتير وبناء الثقة ـ دراسة مقارنة ـ مروة فكري ـ مجلة سياسات عربية ـ عدد 52 ـ  مجلد 9 ـ أيلول 2021.

  • الانتقال الديمقراطي وإشكالياته دراسة عملية ـ عزمي بشارة ـ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ بيروت ـ الدوحة ـ 2020.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها