× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

سوريا و«الخبز الأخضر»

عقل بارد - أوراقنا 01-02-2023

تكاد المتة تكون كالخبز لكثرٍ في سوريا، التي تستورد آلاف الأطنان منها. ولتناول هذا المشروب الذي دخل البلاد منتصف القرن التاسع عشر أعراف، وتقاليد، وأساليب تختلف بين منطقة أخرى، حتى قد يصح القول: «قل لي كيف تشربها أقل لك من أنت»!

هو العام 1850؛ ضاقت الأحوال بالناس في بلاد الشام وبدأت موجة الهجرة إلى أميركا اللاتينية. كان أبناء منطقة القلمون من أوائل المهاجرين، قبل أن تصير لهم جذور متينة في الأرجنتين، إلى حدّ أنّ رئيسها الرابع والأربعين، كارلوس منعم (1930-2021)، تعود أصوله إلى مدينة يبرود في القلمون.

في رحلة الهجرة تلك، وقع السوريون في حب المتة فاصطحبوها معهم حين عادوا، ويُقال إن يبرود صارت موطئها الأوّل في سوريا، العام 1936، ثم بدأت رحلة انتقالها إلى بقية المناطق: السويداء، الساحل، سلمية، سهل الغاب، حمص... لكنّها ستبقى قليلة التداول في مناطق أخرى كالجزيرة السورية، وحلب، ودرعا، والرقة، ودير الزور.

«كاسة متة ما سقاني»

يعود جذر التسمية إلى اللغة الغوارانية، وهي إحدى اللغات الرسمية في بارغواي، إذ كان السكان الأصليون يسمونها «caá mate»، فكلمة caá تعني «عشب»، وmate تشير إلى «القرعة» التي تُستخدم للشرب. ويطلق عليها البعض اسم شاي البارغواي (Paraguay tea) نسبة إلى موطنها الأصلي، كما تُزرع في الأرجنتين، وتشيلي، وهي نبات شجري دائم الخضرة يتراوح ارتفاعه بين 4-6 أمتار وينمو برياً، ويُعد محصولاً استراتيجياً للاستهلاك والتصدير.

ينقل الموقع الرسمي لشركة Taragui عن كتاب «Caá Porã: El Espíritu de la yerba mate» أنّ اكتشاف النبتة يمكن أن يُعزى إلى مجموعة «Kaingang» الإثنية، وهي إحدى مجموعات السكان الأصليين في أميركا اللاتينية، عرفت النبتة قبل 3000 عام.

عندنا، يسمّى المشروب أحياناً بمشروب الفقراء لرخص سعره نسبياً مقارنة بباقي المشروبات من واجبات الضيافة الأساسية في البيوت، وهو مفضَّل على القهوة والشاي في بعض المناطق، كما أنّه رفيق الرحلات والمشاوير. فهو يحتوي الكافيين ومواد غذائية أخرى، وتضاف نكهات متنوّعة إلى كأسه في بعض المناطق مثل السكر، والهال، والحليب، وبعض الأعشاب كالشيح، وإكليل الجبل، والزنجبيل، كلّ على حدة.

تمتاز القلمون بصناعة أطقم المتة بشكل متقن، فالكاسات مزخرفة والمصاصات طويلة، ومنها ما هو مصنوع من الفضّة، ويزيِّن بعضها الذهب

تعدّ سوريا من أكبر المستوردين للمتة، فمثلاً استجرَّت من الأرجنتين 34.5 ألف طن منها العام 2018، حسب «مؤسسة المتة الوطنية الأرجنتينية»، ولم تسبقها في هذا الرقم إلا بوليفيا. ومن شدّة توغّلها في حياة جزء كبير من السوريين، قد تسمع أحدهم يصف حجم الجفاء أو البخل الذي يعامله به جاره، فيقول: «رحت لعندو ع البيت، كاسة متة ما سقاني».

أما في حال انقطاعها عن السوق، فقد يؤدي الأمر إلى أزمة داخلية حقيقية، تضاهي أزمات الخبز، كما حدث في 2018 حين فقِدت من الأسواق ولم تحل المشكلة حتى تدخلت الحكومة، فأدرجتها ضمن بضائع المؤسسات الاستهلاكية، وضمّها مصرف سوريا المركزي إلى لائحة السلع الأساسية المدعومة للاستيراد، قبل أن يتكرر المشهد أخيراً، وتدخل «البطاقة الذكية» على الخط.

«الدوّارة»

صارت لشرب المتة عادات وثوابت كفيلة بأن يميِّز «الشرّيب» كلَّ منطقة عن أخرى، فابن السويداء مثلاً يكتفي بمشاهدة شخص يشربها ليخمّن بنسبة كبيرة من أي مدينة هو. فإن كان يشربها في «كاسته» الشخصية منفرداً ويشترط أن تكون الماء مغلية جداً، فهو طرطوسي لا محالة، ولو كان يشرب الماء فاتراً، يدرك أنه حمصي حتماً. أما لو كان يتشارك «الكاسة والمصاصة» مع أهله أو أصدقائه المقرَّبين بعد أن يغسلها بقليل من الماء ويفركها بقشر الليمون فهو ابن جبل العرب.

لكن إذا بقينا في السويداء، فنعاين أنّ الناس كانت قبل تفشي وباء Covid 19  ترى في الشرب بكأسٍ (أو جوزةٍ) واحدة دوّارة كثيراً من الألفة، ما يجعل الجلسة أكثر دفئاً وتقارباً، خاصة بين أفراد العائلة الواحدة، على أن تجدَّد الكأس مع انتهاء كلّ دورة، أو دورتين، حسب عدد الأفراد. ويُقصد بالتجديد إفراغ الكأس من المتة المستهلكة وتعبئتها بحفنة جديدة ليدوم الطَعم.

في حال وجودِ ضيف محبَّب من خارج العائلة، تبقى الكأس التشاركية تعبيراً عن أنّه بمقام فرد من العائلة، إلا إذا طلب تخصيصه بكأس منفردة وقدَّم عذراً لبقاً ومقنعاً. كما أنّ من عادات أهل السويداء أن يقدِّموا مع المتة صحوناً من المسليات كالموالح، والكعك، والبوشار.

أما بعد Covid 19، فقد اختلف الوضع، وصارت المتة تُشرب بكؤوس شخصية في كثير من البيوت، فيما صارت بيوت أخرى تقدم المتة للضيف في كأس خاصة، وبقيت جلسة المتة على حالها بين أفراد الأسرة الواحدة، ما عدا المشكوك في إصابته طبعاً.

العام 2018 استجرَّت سوريا من الأرجنتين 34,5 ألف طن من المتة، حسب «مؤسسة المتة الوطنية الأرجنتينية»، ولم تسبقها في هذا الرقم إلا بوليفيا

تتشارك السويداء مع مناطق القلمون وسلمية في نوع المتة المرغوبة وهي الناعمة ذات الطعم الأشدّ مرارة، كما تتشارك معها في تقاليد تناولها، من عادة الشرب في كأس رفيعة مشتركة إلى تقديم الموالح معها. لكنّ القلمون تنفرد في صناعة «أطقم المتة» بشكل متقن، فالكاسات مزخرفة والمصاصات طويلة، ومنها ما هو مصنوع من الفضّة الخالصة التي يزيِّن بعضها الذهب.

أيضاً العلبتان اللتان يوضع فيهما السكر والمتة مصنوعتان بعناية تلائم أناقة الصينية النحاسية أو الخشبية المنمّقة، وقد امتدت هذه التقاليد إلى مناطق تتبع إدارياً مدينة حمص، مثل صدد، بحكم القرب الجغرافي.

أما في طرطوس وحمص، فلا تقاليد جمعية سوى التعلّق الزائد بها، ولا تختلف المدينتان إلا في التفاوت في درجة حرارة المياه المستخدمة، فهي مغلية في طرطوس، فاترة في حمص، بينما في اللاذقية تُفضل عموماً ساخنة دون الغليان.

أما أبناء باقي المحافظات، فجرى العرف أن يعتادوا شرب المتة مع زملائهم من تلك المناطق في الخدمة الإلزامية، أو مدن السكن الجامعي، فتكون لكلّ منهم علبته وكأسه ومصاصته، مضيفين بذلك على أنفسهم عبئاً مالياً ليسوا مجبرين عليه، لكنّهم يرغبون في خوض هذه التجربة للانسجام، ونادراً ما يواظب أحدهم على شربها في الإجازات بين أهله أو بعد عودته إلى مدينته.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها