× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

«اللامركزية الوهمية» والجباية: إعمارٌ بستارِ «الإدارة المحلية»

عقل بارد - على الطاولة 22-02-2023

يؤدي تحليل أيّ تطورات على الساحة السورية، إلى إشكالية إعادة الإعمار. ورغم استمرار انقسام الجغرافيا، هنالك شبه تسليم بأنّ العملية مرتبطة بالحكومة المركزية في دمشق لا بحكومتي شمال غربي البلاد («الإنقاذ» و«المؤقتة»)، ولا بـ«الإدارة الذاتية» في شمال شرقي البلاد. ولا تزال الحكومة المركزية تبحث أكثر من غيرها عن أي مدخل يقودها إلى العملية المفقودة حتى اليوم

الصورة: (فزعة حوران - فايسبوك)

تؤكد دراسة لمركز مالكوم-كير كارنيغي، صدرت منذ عامين بعنوان «إعادة الإعمار في الدول العربية بعد الحرب: استمرار الصراع بوسائل أخرى»، أنّ إعادة الإعمار لن تكون عملية يسيرة، وهي تنطلق من سؤال حول إمكانية خوض سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق عمليات إعمار ناجحة في مرحلة ما بعد الحرب. وهنا تربط إعادة الإعمار بعد الحرب بأربعة شروط: توافر الموارد المالية، الطريقة التي تنتهي أو قد تنتهي بها الحرب، وجود عملية سياسية على الصعيد الوطني أو الإقليمي، الهياكل الاقتصادية التي كانت قائمة قبل الحرب والإرث المؤسساتي وعلاقات الدولة.

في تحليل النموذج السوري، تؤكد الدراسة الافتقار إلى الشروط كافة لتحقيق إعادة إعمار ناجحة، متوقعةً أنّ البلاد ستواصل تشرذمها السياسي والأمني الحاد، بل تقول إنّ على سوريا الاعتماد بشكل شبه كامل على التمويل الخارجي لإعادة الإعمار عبر المساعدات، والقروض، والاستثمارات.

لكن «ثمة عوامل جيو-اقتصادية تقوّض الحصول على هذا التمويل، إذ من المستبعد أن توفّر الدول الغنية في الاتحاد الأوروبي، ومجلس التعاون الخليجي، ومعهما الولايات المتحدة، التمويل اللازم لإعادة إعمار يديرها النظام».

وبرغم أن كارثة الزلزال التي أصابت البلاد قبل أسبوعين أفرزت تطورات لافتة على الصعيد السياسي، وأعادت الحديث عن «احتضان خليجي/عربي» لدمشق، يظل مستبعداً أن تصل هذه التطورات حدّ الانخراط في عملية إعادة إعمار حقيقية وجوهرية، من دون حلحلة كثير من الملفات المعقدة.

أما حليفتا دمشق الأساسيتان، موسكو وطهران، فلا تملكان الموارد اللازمة لتمويل الإعمار. ومن الأسباب أيضاً أنّ سوريا لا تُعدّ بيئة مناسبة لأيّ نوع من الاستثمار الخاص المحلّي أو الأجنبي نظراً إلى ارتفاع وتائر الانقسام الأمني والسياسي في البلاد. لذلك، تتوقع الدراسة ألا ينصب الاهتمام على إعادة الإعمار إذا كانت تتعارض مع استمرار سيطرة النخب الحاكمة وحلفائها على الشؤون الأمنية والسياسية.

لمعايرة الواقع مع مخرجات الدراسة، انتهت منذ أشهر قليلة انتخابات «الإدارة المحلية»، وأفضت إلى «مجالس بعثية» بامتياز لإدارة المحليات التي ظهرت أكثر خلال الحرب السورية الممتدة منذ 2011. فقبل هذا التاريخ لم تكن الوحدات المحلية لتدرك تمايزاتها وخصائصها، لكن الحرب وما جرّته أظهرت معظم التمايزات، بل تعززت الأخيرة بفعل تفكك الاتصالات المباشرة حتى بين المناطق المتجاورة في ظل تقاسم مناطق السيطرة حيناً وتبادلها في أحيان أخرى.

رغم إقرار السلطة قانوناً خاصاً بالوحدات الإدارية منذ 2011 (صدر القانون بالمرسوم رقم 107)، فإنّ التجربة أثبتت عدم اعتراف السلطة نفسها بهذا القانون، أو الالتفاف عليه منعاً من انزلاق نحو شكل من اللامركزية يمكنه أن يضعف قوة السلطة المركزية، أو يقاسمها النفوذ والموارد. لكن يبدو أنّ ما أفرزته الحرب، خاصة في المناطق التي كانت خارج سيطرة دمشق، يقلق السلطة المركزية.

يمكن عدّ الانتخابات أيضاً نموذجاً لقياس شرعية السلطة، باعتبار أنّ سياسات التعافي يجب أن تشمل إعادة بناء المؤسسات التمثيلية ومصداقية السلطة وشرعيتها، ومفهوم الشرعية يعني أن تحظى السلطة بالقبول من المجتمع، فيلتزم المواطنون معتقدات محددة والتزامات تجاه السلطة مقابل تمتع رموزها وشخصياتها بحالة الهيبة.

لقياس هذا الأمر، تقف دراسة صادرة عن مركز روبرت شومان /Robert Schuman للدراسات المتقدمة بعنوان «انتخابات المجالس المحلية في سوريا 2022: المزيد من تجذر شبكات النظام»، عند حالة «تفاقم اللامبالاة الشعبية تجاه الانتخابات وانخفاض مستوى التعبئة مقارنة بالانتخابات البرلمانية والرئاسية» في العامين الماضيين.

في النتيجة، ظهر أنّ هذه الانتخابات «ليست حدثاً سياسياً مهماً للنظام، بل استجابة روتينية لاستحقاقات دستورية»، إضافة إلى أنّها جاءت «في وقت عجزت فيه الحكومة عن تقديم حل للأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تواجهها البلاد»؛ كل هذه الاستنتاجات تشي بحالة من ضعف شرعية السلطة وفق هذا النموذج.

من دولة الريع إلى دولة الضرائب

مع غياب بنود تغطي الإعمار في موازنة 2023، أو الحديث عن أيّ خطط وطنية أو محلية له، فإنّ مجمل التطورات التي تمر بها البلاد تظهر عدم وجود حل في الأفق. حتى إنّ مغامرة «الغاز العربي» إلى لبنان، وحصة سوريا منه، وما حملته من بوادر انفتاح وكسر للعقوبات، بقيت طي الأحلام بسبب «قيصر» الأميركي.

رسّخت السلطة ثقافة «الاعتماد على الدولة لتأمين الوظائف» بعيداً عن التفكير الإنتاجي المبدع، ما ولّد تشوهات بنيوية في الدور الاجتماعي المفترض للدولة

لدى النظر في بنية الاقتصاد السوري يبدو جليّاً أنّه لا يزال ريعياً، وهذه صفة سابقة للحرب التي حرمت السلطة المركزية من الموارد الريعية، خاصة النفط، والغاز، والسياحة. فهذه السلطة نمت في ظل ترسيخ ثقافة «الاعتماد على الدولة لتأمين الوظائف والعمل»، وبعقلية الريع بعيداً عن التفكير الإنتاجي المبدع، ما أدى إلى تشوهات بنيوية في دور الدولة الاجتماعي المفترض، ثم امتد التشوه إلى الثقافة العامة التي ابتعدت عن الإبداع.

أدركت السلطة خلال الحرب هذا الأمر لكن نمط تفكيرها لم يقدر على ابتداع اقتصاد إنتاجي بعد الاستقرار، فلجأت إلى الجباية، كأنّها تريد التحول إلى دولة ضرائب إنّما بأدوات ريعية لتعويض الفاقد من الموارد الريعية. من هنا، بدأت سلسلة الارتفاعات الضريبية مقابل تنامي العجوزات في الموازنات المتتالية، وترحيل كل عجز إلى الموازنة المقبلة، وآخرها الموازنة العامة 2023 التي أقرت بعجز بلغ 1,9 مليار دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرسمي المحدد بـ 2500 ليرة حين إقرارها في تشرين الأول/أكتوبر 2022، من دون حساب عجز القطاع الكهربائي الذي لم يعد يُدرج في الموازنة منذ سنوات!

في المقابل، حاولت سلسلة الارتفاعات الضريبية وتوسيع مروحة التكاليف الضريبية موازاة تراجع الليرة، ولم يتغير وضع الضريبة بالنسبة إلى الموازنة العامة للدولة، فمثلاً بلغت نسبة مساهمة الضرائب والرسوم في موازنة 2008 نحو 61% حين كانت الموازنة نحو 600 مليار ليرة (13,5 مليار دولار آنذاك)، فيما تشكل الضرائب والرسوم نحو 63% من موازنة 2023 موزعة على قرابة 51% من الضرائب والرسوم غير المباشرة و11,96% من المباشرة (ضرائب الرواتب والأجور). فيما بلغت ضريبة الأرباح الرأسمالية 2,62%، أي يدفع الموظفون والموظفات خمسة أضعاف ما يدفعه أصحاب رؤوس الأموال والممتلكات الذين تقيّم ثرواتهم بتريليونات الليرات، وفقاً لأستاذة علم الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتورة رشا سيروب.

مع تراكم تعقيدات السياسة والميدان يتسع الضغط الذي تسببه إجراءات «قيصر» - عُلقت حالياً بعض بنوده فقط لستة أشهر - مع استمرار التراجع في التفكير الحكومي، ما يعني انعدام القدرة على خلق موارد كافية للإعمار.

يعزز هذا التفكير أنّ التهرب الضريبي غير مرتبط بظروف الحرب، فقد سبق أحد وزراء المالية السابقين (محمد الحسين) أن قدر حجم التهرب الضريبي بمئتي مليار ليرة سورية (كان سعر صرف الدولار آنذاك لا يتجاوز 50 ليرة، أما الآن فالسعر الرسمي 4522 للدولار الواحد، وسعر الحوالات الرسمي 7000، وسعر السوق السوداء 7250). 

إنّ مجمل ما سبق يؤكد عجز بنية الاقتصاد الوطني عن إعادة إعمار البلاد، ما يعني الحاجة الماسة إلى ركيزتين أساسيتين غير متوافرتين اليوم. الأولى بنية مرنة للاقتصاد تمزج بين الريع والضريبة، وهذا يحتاج قبل كل شيء إلى سنوات من العمل لرفع الناتج القومي من جهة، وإيجاد آلية شفافة تضمن إدراج كل مخرجات الإنتاج في عماد الموازنة العامة، وبعدها رفع مستوى المعيشة المقرونة بزيادة عادلة للضرائب التصاعدية.

الركيزة الثانية آلية تخطيط للإعمار على مراحل متتابعة تضمن أن توازيها بيئة داعمة للإعمار من عوامل سياسية واجتماعية عمادها المصالحة الوطنية، وهذا يتطلب مراجعة الأرقام والبيانات السابقة التي تحمل كثيراً من التهويل، وتغطية الحقائق من أجل كشف البيانات الحقيقية للواقع السوري. وتكمن صعوبة هذا كله في الحاجة إلى عملية سياسية حقيقية تنخرط فيها جميع الأطراف.

«لامركزية الفزعات»

من السذاجة القول إنّ النقطتين السابقتين تغيبان عن تفكير السلطة، فهي - غالباً - على بينة تامة من كل، أو معظم ما تقدّم، ولا يبدو أنّها في معرض القبول أو المضي في توفير أي من الركيزتين، وهي على غرار كل شيء تلجأ إلى الحلول الالتفافية التي تعتقد أنّها لا تعرض عرشها إلى التآكل.

من هنا، كان البحث عن مدخلات لتحميل فاتورة الإعمار على الآخرين، ولصعوبة الأمر بالمستوى الكلي يبدو أنّها لجأت إلى تلمّس خطوات على المستوى الجزئي انطلاقاً من فرص يوفرها الواقع الحالي. ففي السنوات الماضية، كان الشغل الشاغل لجميع المهتمين بالشأن السوري مناقشة قضية اللامركزية وفرص الإدارة المحلية تحديداً. بدأ الجميع يفككون القانون 107 وصولاً إلى مداخل للمشاركة المجتمعية فيه، ولأنّ للمشاركة مستوياتها، كان يجري التركيز على إشراك المجتمع في التخطيط والتنفيذ للمشاريع التنموية في سياق محلي، مع صعوبة الحديث عن شراكة مع السلطة على المستوى الوطني.

شُكلت في بعض البلدات لجان أهلية لعبت دور الوساطة مع مغتربي كل منطقة، لجمع مليارات قد تكون كافية لتأمين بعض الخدمات

في النتيجة، كان الخطاب الرسمي خلال انتخابات الإدارة المحلية في 9/2022 يركز على شعار التنمية، وحرصت السلطة عبر «حزب البعث» على الإمساك بالمجالس المحلية، ثم المكاتب التنفيذية التي تديرها، وانتقل التركيز على وضع الخطط التنموية. مع بداية العام الجديد، انتقل التركيز إلى اللجان المحلية التي تستمد شرعيتها من المجالس المنتخبة، فانصب تركيز العمل الحكومي والمنظمات شبه الحكومية على الإدارة المحلية، وبدأ الحديث عن لجان التنمية، ودور المجالس في التنمية، ووضع الخطط الكفيلة بالنهوض بواقع الخدمات المحلية. 

خلف الكواليس يمكن تفهم الخشية من منح صلاحيات لهذه اللجان لأنّ من شأن ذلك التأسيس لشرعية المشاركة في القرار المحلي، ثم إمكانية المطالبة بمشاركة في القرار الوطني. لذلك كان لا بد من اختراع هياكل غير رسمية يسهل تفكيكها، فبدأت تظهر هنا وهناك لجان أهلية بقرارات صادرة عن المحافظين، ورأينا مثل هذه اللجان في درعا، وحماة، وريف دمشق.

أخذت اللجان الأهلية على عاتقها مهمة تمثيل مناطقها، وقد يكون هذا الأمر صحيحاً مع التشكيك في حالة التمثيل التي للمجالس «المنتخبة بعثياً»، لكن القطبة المخفية أنّ السلطة استخدمت هذه اللجان من أجل تمويل إعمار المناطق باستخدام إستراتيجيتين.

الاستراتيجية الأولى هي تمويل بعض الإعمار مباشرة تحت اسم «الفزعات»، ورأينا مثل هذا الأمر في درعا حيث تشكلت في عدد من البلدات لجان أهلية بقرار من المحافظ مهمتها جمع التبرعات لتمويل إعادة الخدمات إلى البلدات. لعبت هذه اللجان دور الوساطة مع مغتربي كل منطقة لجمع مليارات قد تكون كافية لتأمين بعض الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء.

الاستراتيجية الثانية هي إعادة النظر في التقسيم الإداري، وهو ما يمكن التدليل عليه بما جرى في محافظة ريف دمشق، فالعمل على تأسيس مدينة مركز لمحافظة ريف دمشق ليس وليد اللحظة، وليس من المصادفة أن تقبع في دوما وحرستا، لكن حجم الارتباط التاريخي بين المدينتين وقطر والسعودية، ووزن المغتربين فيهما كفيلان بإعمار التجمع الأكبر المجاور للعاصمة الذي كان خارجاً عن سيطرتها.

تمثل الاستراتيجيتان السابقتان نموذجاً سهلاً وقابلاً للتعميم في مناطق أخرى مع الحديث عن مسارات التقارب مع بلدان الخليج في مناطق تمتلك وزناً نسبياً للمغتربين وتعرضت لدمار شديد، وبذلك يكون تمويل الإعمار من جيوب السوريين الذين كانوا أكبر الخاسرين من الحرب نفسها، في وقت تركز السلطة على تسمين أثريائها الجدد، مع ما يحمله الانتقال إلى دولة ضرائب من مخاطر تكمن في حقوق دافعي الضرائب، وعدم القدرة أو الرغبة على الوفاء بها. أما ما يجري ترويجه من انفراجات، فلا يزال الحكم عليه محفوفاً بالمخاطر كون عائداتها لا تزال تصب في جيوب هؤلاء الأثرياء.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها