× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

نحن والزلزال.. «تحت الهوا»

حكاياتنا - ملح 15-03-2023

«يجب أن تُترك المشاعر جانباً في التغطيات، مهما كان الحدث قاسياً ودامياً»، هذه واحدة من وصايا عديدة تُلازم الصحافيين والصحافيات. لكن أنّى يمكننا ترك المشاعر جانباً بعد كل ما شهدناه في هذه البلاد المنكوبة؟

الرسم: (عماد حجّاج - كارتون موفمينت)

في 6 شباط/فبراير 2023، وفي الساعة السادسة والنصف بتوقيت دمشق، اختتم مُقدم برنامج «المختار» الزميل باسل محرز حلقةً كانت تفيض بأخبار الموت، وبكثير من الحزن، ونداءات الاستغاثة، قائلاً: «الله معكن». حينها فقط شعرت أن بوسعي أنا المُعِدّة أن أبكي، أن أصرخ، أن أعاتب الله على ما يجري. 

«يجب أن تُترك المشاعر جانباً في التغطيات، مهما كان الحدث قاسياً ودامياً»، هذه واحدة من وصايا عديدة تُلازم الصحافيين والصحافيات في طور التعلّم، والواقع أن الصحافيـ/ـة دائماً في حالة تعلم. لكن أنّى يمكننا ترك المشاعر جانباً بعد كل ما شهدناه في هذه البلاد المنكوبة على اختلاف مناطق السيطرة العسكرية؟!!

قد نتمكن أحياناً من ضبط انفعالاتنا مؤقتاً، لكن ما نعايشه لن يفارقنا بالتأكيد، وكثيراً ما يحضر في أحاديثنا «تحت الهوا». يحكي لي الزميل حيدر مصطفى عن مشاعره الأولى عند رؤية أنقاض المباني، وخاصة بناء الريحاوي وبناء الغزالات في جبلة: «لم أكن أتخيل يوماً أن أراها مدمرة.. قبل ساعات فقط كانت هنا عائلات تحيا، وأطفال يلعبون. الشعور فعلا لا يوصف بكلمات. لم أفهم كيف للأرض أن تفعل كل هذا بالأبرياء؟!».

أما زميلنا المراسل محمد سليمان فيسترجع حالته وقتها قائلاً: «من سمع ليس كمن رأى، وقفتُ مذهولاً لبعض الوقت أشاهد فقط. لم أرفع الكاميرا، ولم أستطع الكلام.. كأنه مشهد من فيلم». 

يسكن الزميل محمود أبو راس في منطقة سيطرة أخرى من البلاد المنكوبة، وتحديداً في إدلب. هناك عاش محمود مشاعر مشابهة، بل واستخدم توصيفاً مماثلاً «كأنه مشهد من فيلم.. الشعور كان موجعاً جداً، شكل الناس تحت الأنقاض، يد ظاهرة من بين الركام، وصوت يناشد الرحمة.. أعتقد أننا سنحمل هذه الصور معنا إلى يوم مماتنا». 

تتشابه تجارب زملائي الثلاثة وتجربتي، نُجمع معاً عند التفكير بالزلزال على مفردة «كابوس». يقول حيدر «أعيش كل ليلة كوابيس مروعة»، ويؤكد محمد «أنا صرت عم كوبس بالزلزال وخصوصاً مشاهد الأطفال»، بينما يقول محمود «لا يحاصرنا المشهد وقت رؤيته فقط، إنما يلاحقنا حتى في فراشنا».

هل نملك «رفاهية» التعبير عن المشاعر، والبكاء، والغضب، أو حتى الصراخ؟ - الرسم: Pete Kreiner / كارتون موفمينت

قد أكون محظوظة بأنني أعمل وراء الكواليس، ولم أضطر إلى معايشة كل مشاعر القهر والفجيعة على مرأى أو مسمع من الجمهور. تشغلني الفكرة، وأسأل زملائي عن تجربة ضبط النفس. يقول لي حيدر «الزلزال لم يكن حدثاً سياسياً كي نحاول الفصل بين مواقفنا ومشاعرنا ومهنيتنا، نحن نعمل في الصحافة لكن قبل ذلك لدينا مشاعر ونتألم مع الناس. لم يكن سهلاً التحلي بالمسؤولية لضبط النفس عوضاً عن ترويع المروعين أصلاً، حاولت مراراً حبس دموعي عبر البث المباشر، في لحظات ضعفت لكن قاومت كي لا أكون مزاوداً على الذين فقدوا أحبتهم ومنازلهم، قضيت أياماً ودمعي لا يجف، لكن حاولت ألا أنقل ذلك عبر الهواء مباشرة، احتراماً لجروح وآلام الناس».

فيما يقول محمد «مطلوب منا أن نكون متوازنين، ونحن فعلياً منهارون. أصعب مهماتنا الحديث مع الناس مع مراعاة حالتهم الصحية والنفسية، فيما نحن لسنا بحالة صحية سليمة، ويجب ألا نبكي».

يحدثني محمود عن تجربته في إدلب: «حاولت أتماسك وما أنهار بأحد المواقع أثناء إزالة الأنقاض، للحظة ما فجعني منظر أم ناجية عم تنتظر خروج أبنائها، لا شعورياً تخيلت هي الأم إنها والدتي، لا شعورياً تركت الكاميرا وجلست بالقرب منها وصرت أبكي.. بالنهاية أنا إنسان قبل ما أكون صحافي». 

أفكر اليوم بحجم التغيرات التي أصابت حياتنا في هذه الفترة القصيرة نسبياً. جمل مثل «إذا عشنا»، «لوين بدنا نروح»، «ما عاد في حلم» صارت متكررة كثيراً في الأحاديث اليومية من حولي. لم أعد أفضل العمل ساعاتٍ طويلة، وأصبح الصمت سيد مواقفي في الحياة، والركض خلف الحياة لنعيش أصبح مجرد تفصيل.

يخبرني حيدر أنه فقد الكثير من النزق، لم تعد تستفزه الكثير من الأمور، وأصبح يميل إلى المسامحة أكثر من قبل، يقول لي «الحياة التي عشناها بتعقيد كبير خلال السنوات الماضية، اليوم تبدو فارغة وقابلة للزوال في بضع ثوانٍ إن غضبت الأرض». بينما يؤكد لي محمد أنه أصبح زاهداً أكثر.

يُجمع الزملاء الثلاثة على أن الآثار النفسية هائلة، والعلاج النفسي بات ضرورياً، وهو ما أفكر به أنا أيضاً.

تعدد لي الدكتورة رزان عبيد أنواع الصدمات التي يتعرض لها البشر ومنها، الصدمة الحادة، المزمنة، والمعقدة، والثانوية. تخبرني أن الصحافيين والصحافيات أكثر عرضة للأزمة الثانوية، وتنصح باللجوء إلى العلاج النفسي إذا استمرت الاضطرابات النفسية أكثر من ثلاثة أشهر.

تنصح أيضاً بالابتعاد ولو لساعات قليلة عن الأخبار، وتشير إلى ضرورة الامتناع عن تنفيذ المهمة التي يشعر الصحافيـ/ـة أنها ستزيد الأعباء النفسية والجسدية.. وقبل كل ذلك بضرورة «التعبير عن المشاعر وخصوصاً في الأوساط الصحفية وفي الأماكن التي نشعر فيها بالثقة الكافية». 

لكن، هل نملك بالفعل «رفاهية» التعبير عن المشاعر، والبكاء، والغضب، أو حتى الصراخ، ولو «تحت الهوا»؟!


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها