× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

رسالة إلى صديقي المجنّس: لهذه الأسباب «تغيرت النفوس» هنا

حكاياتنا - ملح 24-03-2023

أتاحت كارثة الزلزال أمام اللاجئين السوريين من حاملي بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) وأصحاب الجنسية المزدوجة في تركيا زيارة بلادهم التي غابوا عنها لسنوات طويلة، ومن بينهم صديقي الذي زارني بعد غياب دام أكثر من تسع سنوات أمضاها في تركيا بين عمل ودراسة، وفي ظروف معيشة جيدة لا تشبه ظروف كثير من اللاجئين، إلى أن حاز الجنسية التركية. يسألني صديقي بإلحاح: لماذا تغيرت النفوس هنا؟

الصورة: (Kareem Tebi - فايسبوك)

يخبرني صديقي السوري / التركي سلفاً بأن إجازته تهدف لرؤيتي، ورؤية عدد من أصدقائه وأقاربه بعد غيابه الطويل، برغم «تغير نفوس السوريين في الشمال، وأثر ذلك على التعاملات والعلاقات الاجتماعية». فأعلّق بالقول: «يا صديقي، لا تستطيع معاتبة أحد هنا على ما قد يبدر منه، فلكلٍّ ظروفه الخاصة بما فيها من تحديات وصعوبات قد تدفعه إلى تناسي وتجاهل حتى المقربين، بعد أن تتالت عليه تداعيات الحرب والأوبئة والكوارث».

كنت آمل أن تساعدني هذه المقدمة على التخلص من أحاديث كثيرة حين يزورني، أنا الذي أعيش حياة جيدة إلى حد ما، بين أسرة فيها زوجة وطفلان، وعائلة كبيرة تزينها المحبة وشبكة من العلاقات المتينة.

لكن؛ سرعان ما اتضح أن مقدمتي تلك لم تفد شيئاً، فبعد أيام من قدومه راح يكيل الأسئلة: «هيّا أخبرني من فعل كذا؟ وماذا حصل مع فلان؟ ولماذا وصلنا إلى هنا؟ ومن سرق كذا؟ وأين فلان؟ من قتل واعتقل؟ ومن تسبب؟ ولماذا تغيرت نفوس الناس؟»، وغيرها أسئلة كثيرة في مختلف المجالات لا تكفي للإجابة عنها آلاف الصفحات، خاصة أن «الحياة سريعة في تركيا»، ولا تترك له الوقت للاطلاع على مختلف الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تخص بلاده. 

حسناً يا صديقي، تعال لأخبرك بأن تلك الحدود التي تعبرها بسلاسة بجنسيتك التركية، هي حلم لكثر من المقيمين هنا، وبمثابة أسوار سجن يقتلهم ويفتك بهم، فلا هم عاشوا هنا لأن لا حياة إلا لمن يملك المال والسلطة، ولا هم نجحوا في عبور الحدود..

تعال لأخبرك عن فلان الذي كنت تعرفه قبل تسع سنوات، وكيف فقد واحداً من أبنائه معتقلاً عند المخابرات السورية، أما فلان، فابنه مفقود في سجون الفصائل، وفلانة ما زالت تنتظر زوجها المتهم بأنه «داعشي» واعتقلته «قسد» أو ربما «النظام» أو حتى الفصائل، فهي لا تعرف عنه سوى أنه مفقود.

تعال أخبرك عن ذلك الشاب الذي قُتل والده أثناء اجتيازه خطوط التماس بين مناطق السيطرة السورية، وتلك الشابة التي قُتل زوجها على يد تنظيم «داعش» المتطرف، أما ذلك الطفل فقد خسر والده إثر قصف لمنشأة كان يعمل فيها، وتلك الطفلة بترت يدها نتيجة سقوط قذيفة على مدرستها.
لأخبرك أيضاً، أن تلك السيدة تركت منزلها وكل ممتلكاتها في منطقة بعيدة، وتقطن الآن مع أولادها في خيمة صغيرة لا دفء في شتائها ولا برودة في صيفها، تلازمها الأمراض وتعمل في الأراضي الزراعية لتعيل أسرتها، وتزورها منظمات وجمعيات بسيارات فارهة ولا تنقذها من محنتها. 

هذا الإنسان لم يعد قادراً يا صديقي على منحك عناقاً تتوقع أنه سيكون حاراً بعد طول فترة غيابك..

لعلّي أحكي لك عن ذلك المُهجّر الذي كافح طويلاً حتى بنى منزله، لكنه تحول ركاماً بعد الزلزال. أو عن المُعلم الذي ينتهي راتبه في اليوم الثالث من الشهر، ثم يبحث عن شخص يتكفل بإجراء عملية لابنته المريضة، وآخر يبحث عن عمل إضافي ليعيل أسرته التي لم تتناول سوى الخبز والماء منذ أسابيع، وثالث يعمل وكأنه لا يعمل! ورابع يبحث بين بقايا القمامة كي يوفر بضع ليرات يشتري بها ربطة خبز، وخامس سَرق ونهب وأكل حق الأربعة الذين تحدثت عنهم.

صدقني يا صديقي؛ هذا ليس وحي خيال، بل هي قصص وأهوال تعجز السرديات عن توثيقها لأنها ثقيلة على من عاشها، ومن يكتبها، وحتى من يسمعها، مع ذلك سأخبرك بالمزيد هنا.. هل ما زلت مصراً على سماعي؟

فلأحدثك عن العجز الذي يلازم من يقبع في هذه البقعة، عن النفوس المتعبة التي تآكلت خلال السنوات الثقيلة، وأُرهقت بين حرب فيها فقدٌ واعتقال وقصف ونزوح وتهجير، ووباء أتعب الصدور المريضة أصلاً، وزلزال زاد الطين بلةً ودمر كل محاولات «النجاة».

هذا الإنسان لم يعد قادراً يا صديقي على منحك عناقاً تتوقع أنه سيكون حاراً بعد طول فترة غيابك.. الحقيقة يا صديقي أن مشاعر الاختناق وضيق الصدر وقلة الحيلة ترافق كل من يعيش في سجن الشمال، في معركة مستمرة مع حياة يائسة يحكمها العدم.

عمّ أحدثك يا صديقي؟ عني؟ أنا أستيقظ في كل صباح أعارك كل ما ذكرته لك من ذكريات ومشاهد مؤلمة وتحديات ومصائب وأهوال وقصص لم أنجُ منها، محاولاً رسم ابتسامتي المصطنعة التي تشاهدها وأنا أحدثك، لأنك صديقي المقرب وأراعي مشاعرك، ومن واجبي الاحتفاء بك. 

يا صديقي،  أربعة أيام غير كافية لتميز الخبيث من الطيب، ولا حتى القريب من الغريب، وليست كافية لتحدد أن نفوس أهلك متغيرة، ولا تكفي للحديث عن مشكلة واحدة من المشكلات التي أوجزتُها لك.  

صدقني؛ نحن لم نتغير طواعيةً يا صاحبي.. لكنّ «الحياة» نالت منّا. 


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها