× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

أنا العنيد الوقح الذي لم يمت بعد..

حكاياتنا - ملح 24-03-2023

ثمة اعتقاد يقول إن سنة واحدة من حياة الكلاب تعادل سبع سنوات من حياة الإنسان، لست متأكداً من دقة هذه المعلومة، ولكنني متأكد وواثق من أن سنة واحدة عشناها – نحن أبناء هذه الحرب – تعادل عقداً كاملاً، أنا الطفل الهرم، ابن الـ 12 عاماً، عقداً، دهراً

منذ أن جئت إلى هذه الدنيا وحتى الآن، لم يسمعني أحد، هل خطر ببال أحدكم أن يسألنا، نحن أبناء هذه الحرب عمّا عشناه ونعيشه؟ نحن من تسموننا «بناة المستقبل» أصبح عمر واحدنا الآن 12 عاماً، 12 دهراً بالتمام والكمال. 

حسناً سأخبركم أنا.

صرختي الأولى اختلطت بصرخات أبناء الحي الذين اختبروا لأول مرة صوت الرصاص الكثيف، رصاص من كل حدب وصوب ملأ الطرقات برائحة البارود، تغلغلت هذه الرائحة في جلدي الطري، وأصبحت جزءاً من رائحتي.

في الشهور الأولى، اختبرت الجوع، لم تعد أمي قادرة على إرضاعي، ولم يتمكن أبي من تأمين الحليب اللازم كما يجب.

في عامي الأول أصبحت يتيماً، قضى أبي في الحرب، وماتت أمي وهي تحاول الفرار بي، لكن، ولأنني كما يبدو عنيد، تمكنت من النجاة.

الكلمات الأولى التي تعلمتها كانت شتائم، شتائم لا أستطيع ذكرها موجهة للآخر الذي لا أعرف عنه أي شيء.

لم أعرف الألعاب مثل أي طفل طبيعي، كانت القنابل والمسدسات والرصاص ألعابي، تعلمت خلال سنواتي الأولى فك السلاح وإعادة تركيبه، وتشاركت مع أطفال في عمري لعبة تحديد نوع القذائف التي كانت تصفر فوق رؤوسنا، وقدرتها الانفجارية.

لم أتعلم القراءة والكتابة، فالمدرسة التي كان من المفترض أن أجلس على مقاعدها تحولت صفوفها إلى قاعات تخطيط للحرب، وأقبيتها إلى سجون، وباحاتها إلى ساحات إعدام.

قد تتساءل: كيف أكتب إذاً وأنا أميّ، حسناً هذا النص غير حقيقي، لم أستطع كتابته، هو مجرد تخيّل لا أكثر لرسالة أتمنى لو أنني أستطيع كتابتها لكم، لكم جميعاً.

أنا الرصاصة الجاهزة للإطلاق في بنادقكم، والقنبلة المعدة للتفجير غبّ الطلب، أنا الضحية التي تُعدّونها جيداً لتغدو بعد سنوات قليلة.. الجلاد

رأيت شتى أنواع التعذيب والتنكيل، رأيت رؤوساً بلا أجساد، وأجساداً بلا رؤوس. عرفت طعم الدم ورائحته، أصبح لونه الأحمر القاني جزءاً من شوارعنا وأرصفتنا، أخبرني شخص يكبرني بعقود أن هذا المشهد يُذكره بعيد الأضحى، حسناً كنا نحن الأضاحي في عيد دائم للاحتفال بالموت.

كونت صداقات عديدة طيلة الأعوام الماضية، ولكنني خسرتها كلهاً تقريباً، بين من مات غرقاً وهو يحاول الوصول إلى أوروبا عبر البحر، وبين من قتل برصاص حرس الحدود، ومن فُخّخ وفُجّر، ومن زُج به في ساحات المعارك ليلعب آخر لعبة في حياته، وبين من أنهى حياته لغم، أو مزقته قذيفة.

لم أتعلم أي مهنة، فأرضنا التي اعتاد أهلي زراعتها بارت بسبب الجفاف، ومحاصيلنا سرقت، ورغيفنا الذي نقتاته نصطف في طوابير طويلة برؤوس مطأطئة لنحصل عليه، وكثيراً ما كان يابساً عفناً يُرمى كما تُرمى البقايا لكلاب الشوارع.

بالمناسبة، سمعت يوماً نظرية تتحدث عن عمر الكلاب التقديري بالنسبة للبشر، ثمة اعتقاد يقول إن سنة واحدة من حياة الكلاب تعادل سبع سنوات من حياة الإنسان، لست متأكداً من دقة هذه المعلومة، ولكنني متأكد وواثق من أن سنة واحدة عشناها - نحن أبناء هذه الحرب - تعادل عقداً كاملاً، أنا الطفل الهرم، ابن الـ 12 عاماً، عقداً، دهراً.

اختبرت الكوليرا، والجرب، واختبر أصدقائي شلل الأطفال، والموت تسمماً بلقاحات فاسدة، اختبرت الأوبئة قبل سنوات من اختباركم الجلوس في بيوت مكيفة أمام شاشات التلفزيون خوفاً من «كورونا».

عشت سنوات من حياتي في خيمة مهترئة، وعندما تمكنت أخيراً، أنا وبعض المحظوظين، بعد وساطات والكثير من التملق، من الحصول على غرفة ذات جدران وسقف، انهارت المنازل فوق رؤوسنا بسبب الزلزال، فعدت مع بعض الناجين إلى الخيام مرة أخرى، خيام جاءت العواصف المطرية والسيول – كعادتها – لتقلعها، وتتركنا في العراء نتبادل الشتائم، ونتشارك الخوف والبرد وطأطأة الرؤوس.

أنا ابن دهور.. اختبرتُ في سنوات قليلة ما اختبرته أجيال كاملة، أنا الطفل الهرم. أنا المادة الجاهزة لملء فراغ شاشاتكم، وصفحاتكم، ومَعارضكم. أنا القصة الجاهزة للبيع..

أنا تلك الصورة التي طبعتموها على لوحاتكم النضالية، ونقشتموها على جدران قصور انتصاراتكم، أنا السلعة التي تبيعونها يوماً وتشترونها يوماً آخر، أنا ذلك الباب الذي فتح لكم مغارة علي بابا.

أنا الرقم في جداول إحصاءاتكم، والنعوة الجاهزة للطباعة والتوزيع، أنا الرصاصة الجاهزة للإطلاق في بنادقكم، والقنبلة المعدة للتفجير غبّ الطلب، أنا الضحية التي تُعدّونها جيداً لتغدو بعد سنوات قليلة.. الجلاد.

أنا العنيد الوقح الذي لم أمت بعد.. 


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها