× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

حبٌّ.. وكَرمٌ.. و«شقائقُ أسى»: هنا غوطة دمشق

حكاياتنا - ملح 24-05-2023

ماذا تعرف/ين عن غوطة دمشق الشرقية؟ قد يبدو غريباً أن يُفتتح مقال مكتوب بسؤال، كأنه يخاطب جمهوراً على الراديو والتلفزيون أو عبر بث مباشر في «فايسبوك» أو «تيكتوك»، لكن عندما يكون السؤال عن الغوطة الشرقية التي ارتبط اسمها بالحرب والقذائف والتفاصيل الطائفية التي صدرها الإعلام، علينا أن نطرح أسئلة كثيرة

«مجنونة رايحة ع الغوطة»، «ممكن يصرلك شي هنيك»، «فدية ما مندفع»، عبارات سمعتها من أقارب ومعارف قبل زيارتي إلى غوطة دمشق، وبرغم انقضاء سنوات على توقف المعارك فيها. بعضها كان بقصد المزاح ربما، لكنه مزاح يُكرس صورة نمطية، وبعضها قد يكون جاداً مبنياً على خوف لا يزال حاضراً كما آثار الحرب في كل شيء هنا: في الزرع، والحجر، وفي نفوس الناس حتماً، بينما اضطرّ كثر من أهل المنطقة إلى النزوح عنها بعيداً، وتفرقوا في «بلاد الله الواسعة».

وصلت السيارة التي تقل فريقنا إلى مدخل المليحة في الغوطة الشرقية. أشارت لافتةٌ أنهكتها الحرب وبعض الرصاصات أنها ترحب بالزوار الكرام. عند هذه اللافتة توقف الزمن لحظة، ومرت 12 عاماً من الحرب أمامي بشكل «نيغاتيف قديم» لبقايا صور في كاميرا تقليدية: ابن خالي الذي قُتل وهو يحارب مع الجيش في المليحة، وصديقي الصحافي الذي كان ينقل أخبار الحرب مع الفصائل المعارضة وقُتل، وأنا؟ من أنا؟ 
أنا الفتاة الصحافية التي تدخل غوطة دمشق لأول مرة في حياتها، الغوطة الشرقية التي انتهت العمليات العسكرية فيها منذ نحو خمس سنوات (21/5/2018).

«غوطة الشق شقيق» 

بين حقول الغوطة حكايات بعيدة عن الحرب. بدأت ملامح الغوطة المتعبة تظهر بعد حاجز عسكري لا يزال قائماً هنا. نتجاوز الحاجز، وندخل شوارع بلدة المليحة. النساء في الشوارع متنوعات المظهر: محجبات، وغير محجبات، وحتى أشكال الحجابات وألبسة المحجبات متنوعة، بين حجاب شرعي ولباس فضفاض، وغطاء رأس ولباس عادي، ونقاب.. الكل يمشي في الشارع نفسه، بينما الوجوه تبتسم للغريب.

كنا جميعاً صامتين في السيارة التي تُقلنا. قطع الصمت السائق ابن المنطقة بلهجته الريفية الدمشقية: «مستغربين مو هيك؟». ليبدو الارتباك واضحاً في إجاباتنا التي ركزت على صورة ذهنية نمطية ربط الإعلام والحرب عبرها بين الحياة في الغوطة، وبين التزمّت.

البيوت مشرعة الأبواب في الغوطة الشرقية: المليحة، دير العصافير، شبعا، دير قانون... كلها ترحب بالزائر وتشبه قريتي تماماً

يمشي الزائر على ضفاف بردى الجاف، ويصل الحقول الملونة بالخوخ واللوز والقمح، ونوع من الزهر الجميل الأحمر نطلق عليه في قرى مصياف وحمص والساحل السوري «شق شقيق»، أي شقائق النعمان. إذاً، شقائق النعمان هنا وهناك، ماديّاً، وبرمزيتها التي دأب الأدب على ربطها بالدم، دم الضحايا بشكل خاص. هنا وهناك أيضاً الهموم اليومية واحدة: الغاز، والمازوت، والتهريب، وتجار الحرب، والأسعار... وأيضاً الحب.

دير العصافير!

بين البساتين التي تخلت عن شجر الجوز، زينة الغوطة الشرقية، بسبب أزمة التدفئة ونقص الوقود، سارت القافلة التي تقلنا صحافيين وصحافيات. مع كل تحية نلقيها يأتي الرد كريماً: «أهلاً تفضلوا نشرب شاي»، «ما بيصير إلا ما نشرب شاي». علاقة الفلاحين بالشاي في الغوطة جميلة، كعلاقة ابن المنطقة الشرقية بها تماماً، لكن في الغوطة سكّره أقلّ من شاي دير الزور والرقة، ولذعة الحطب فيه واضحة كونه يُحضّر في البساتين «تازة»!

توقفت السيارة في بساتين دير العصافير، القرية التي تجاور المليحة. استقبلتنا المزارعات اللواتي يرتدين زياً خاصاً بالأراضي ويظهرن عيونهن فقط خوفاً من حرارة شمس شباط «يلي ما ع كلامه رباط»، على حد تعبير إحداهن، لتحدثني وهي تصب الشاي عن علاقتها بالأراضي في الغوطة، وعن الجفاف وانخفاض منسوب بردى، وعن المحاصيل قبل الحرب وبعدها.

كأن تلك الستينية مهندسةٌ زراعية بالفطرة أو الخبرة، إذ تشير بمهارة إلى نوع كل سماد تستخدمه، ثم تغازل زهرة دراق قطفتها وطلبت مني أن أبقيها ذكرى معي. تتحدث فاطمة عن جوز الغوطة الذي كانوا يصدرونه إلى الخليج والأردن قبل 2011، ثم تتنهد وتستأذن لتعود إلى معولها الصغير وتدلل حقل الثوم بيديها. 

مساحات خضراء تريح النفس وتسمع فيها صوت العصافير واضحاً يعلو على صوت طرق المعاول في التراب، وكأنها فعلاً دير استقرت فيه العصافير على أبواب الربيع لترتاح.

رفاق الأمس

انكسر جليد القلق المبني على صور ذهنية حمّلتها الحرب كثيراً من الذعر، وحمّلها المجتمع خوفاً غير مبرر من الآخر، وخطاباً من الكره لا أساس له من الصحة، وهذا ما أكده أبي الذي شعر بفخر بعد زيارتي. أصرّ ابن المدينة الوسطى أنّ أطيب قهوة عربية يمكن أن يذوقها السوري هي في الغوطة، وحملني أمانة السؤال عن رفاق قدامى، فعدت بأخبار سارة وأرقام تواصل، كأنني أحمل أعظم الهدايا. أما أمي، فسألتني عن البقدونس لتبولة لذيذة.
البيوت مشرعة الأبواب في الغوطة الشرقية: المليحة، دير العصافير، شبعا، دير قانون... كلها ترحب بالزائر وتشبه قريتي تماماً. «تفضلوا لنشرب شاي، وإذا بدكن عنا متة أمانة تفضلوا». لا يمكن لزائر أن يقاوم عزيمةَ أهل الغوطة ورائحة الشاي عندهم.

عند الوداع استقت ذاكرتي كلمات للإعلام السوري كان يستخدمها قبل الحرب في الزيارات السياسية وقلت: «ودعنا أهل الغوطة كما استقبلونا بحفاوةٍ وتكريم»، ليقول صديقي متهكماً: «زارع فيكي خير الإعلام الرسمي. شو مفكرة حالك وزير خارجية!». لكن الوداع كان كريماً بالفعل، محملاً بخيرات الأرض التي سمحت القليل من مياه الآبار أن تنضج بعد جفاف بردى، والأهم أنه قادني إلى جواب لذلك السؤال الذي طرحته في المقدمة، جواب يكاد يلازمني بعد كل زيارة إلى كل منطقة سوريّة: «كلنا ضحايا في هذه البلاد».


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها