أكثم صبر الزمان
في مطلع أيار/مايو الماضي، تجددت أزمة مياه الشرب في مدينة الباب الواقعة في ريف حلب الشرقي، خاصة بعدما كشف المجلس المحلي عن انخفاض الكميات في الآبار الجوفية الموزعة على المحطات الثلاث: الراعي وصندي وسوسيان.
تضم محطة الراعي خمس آبار، خرجت ثلاث منها عن الخدمة، بعدما «انخفضت كمية المياه من 300 إلى 88 متراً مكعباً»، وفق المجلس. أما محطة سوسيان، فتضم 18 بئراً، خرجت 11 منها عن الخدمة، فيما تراجعت كمية المياه «من 250 إلى 42 متراً مكعباً». كذلك الأمر في محطة صندي حيث تراجعت الغزارة «من 800 إلى 300 متر مكعب في 12 ساعة عمل».
تعدّ هذه المحطات مصدراً رئيساً يورّد مياه الشرب إلى خزان جبل الشيخ عقيل الذي يغذي المدينة. ولكنها تعاني اليوم من انخفاض في الغزارة الكلية بلغ 3,430 متراً مكعباً في الـ 24 ساعة، ما دفع المجلس المحلي إلى تقنين المياه وترشيد الاستهلاك.
هي ساعة واحدة، لا غير!
هكذا، في الثاني من أيار/مايو، قرر المجلس المحلي لمدينة الباب خفض ساعات ضخ المياه من خزان جبل الشيخ عقيل إلى «ساعة تشغيل واحدة كل أسبوعين»، في مشهد من شأنه أن يولّد أزمة إنسانية كبيرة في هذه المدينة ذات الـ 320 ألف نسمة.
كما أن تحدياً آخر يعترض أهالي المدينة، إذ لا قدرة على تحمل تكاليف الحلول البديلة. فيبلغ سعر الخزان الواحد بسعة 10 براميل، 170 ليرة تركية (نحو 5 دولارات أميركية)، في وقت تحتاج العائلات المكونة من 5 إلى 7 أفراد نحو أربعة آلاف لتر أسبوعياً، أي ما يعادل 20 برميلاً. بالتالي، ستبلغ التكلفة الشهرية الإجمالية نحو 1,400 ليرة تركية (ما يعادل 42 دولاراً أميركياً)، فيما متوسط دخل العاملين في القطاع العام والعاملين في المهن والحرف اليدوية والمياومة بحدود 1000-1500 ليرة تركية شهرياً.
أيضاً يتهدد الأهالي خطر صحي نتيجة تلوّث بعض مياه الشرب التي تنقلها الصهاريج من الآبار الموجودة في القرى المحيطة. فيبلغ سعر العشرة براميل 75 ليرة تركية (نحو دولارين وربع)، ولكنها غير صالحة للشرب. رغم ذلك يضطر بعض الأهالي من العائلات الفقيرة إلى شرائها نتيجة الحاجة والظروف المعيشية والاقتصادية، ما يزيد من احتمالات التعرض لخطر انتشار أمراض مثل التيفوئيد والإسهال والتهاب الأمعاء والكبد والكوليرا.
حلول إسعافية غير مجدية
في العام 2020، أشرف المجلس المحلي في مدينة الباب ومؤسسة المياه التركية على إطلاق مشروع محطات آبار في مدن الراعي وصندي وسوسيان شمال شرقي حلب. حملت المديرية العامة التركية للأشغال المائية DSI مسؤولية الضخ إلى مدينة الباب، فيما تولت «منظمة إحسان للتنمية» إصلاح الخزان الرئيس (خزان جبل الشيخ عقيل) وتأهيل مضختين في سوسيان وصندي.
شكلت المحطات المستحدثة لتغذية الباب بالمياه والصهاريج حلاً بديلاً من المياه الواردة من الفرات عبر محطتي الخفسة وعين البيضا. غير أن الحلين لا يغطيان احتياجات المدينة، ما أدى إلى تكرار الأزمة، فضلاً عن تكبد التكاليف المالية والأمراض والأوبئة، وأيضاً الكوارث البيئية جراء استجرار المياه الجوفية بكميات كبيرة.
يوضح مدير شركة المياه سابقاً، المهندس مصطفى الأخرس، أن آبار المياه الجوفية في المحطات الثلاث «تُعدّ تجميعية، وتعتمد على نسبة الهطولات المطرية». ويضيف أن عملها "ينحصر في الشتاء، بينما تتعرض للجفاف مع بداية الصيف»، مشيراً إلى أن عمليات الضخ تتركز على عدد من الأحياء السكنية، «فتغطي نحو 70% من أحياء الباب، بينما 30% لا تصل إليها مياه الشبكة بسبب تضررها جراء القصف والتوسعات العمرانية».
يلفت الأخرس إلى أن «أزمة المياه التي بدأت في مطلع العام 2017 نتيجة توقف مضخة عين البيضا، دفعت الأهالي إلى حفر الآبار الارتوازية بعمق يصل إلى 100 متر. لكن في العام 2018 انخفض منسوبها، ما اضطر الأهالي إلى حفرها بعمق يراوح بين 250 / 350 متراً».
ويضيف: «ثم في العام 2019، انخفض منسوب الآبار التي حُفرت إلى عمق 350 متراً وتعرضت للجفاف جراء الاستنزاف الكبير للمياه الجوفية التي تعتمد بدرجة رئيسية على نسبة الهطولات المطرية المعدومة حينها».
سيطرات متنقلة
في العام 2012، سيطر فصائل الجيش الحر على الباب، في حدث سيتبعه انقطاع المياه التي كانت تتدفق إليها من مناطق تقع تحت سيطرة الجيش السوري. ستواجَه الأزمة، وفق ما يروي سكان من المدينة، باندفاع الفصائل (المسلّحة المعارضة) إلى السيطرة على مناطق شرقي حلب وصولاً إلى مطار كويرس العسكري ومحطتي الخفسة وعين البيضا».
ثم بعد عامين، سيظهر تنظيم «داعش» المتطرف ويتمدد إل مدينة الباب ومناطق في شرق حلب، علاوة على محطتي الخفسة وعين البيضا. لكنهما ستواصلان العمل على اعتبار أن المدينة ستكون أحد أهم معاقل التنظيم حتى أواخر العام 2016.
يتهدد الأهالي خطر صحي نتيجة تلوّث بعض المياه التي تُنقل من الآبار المنتشرة في القرى المحيطة بالمدينة عبر الصهاريج
في شباط/فبراير 2017، سيطرت القوى والفصائل المدعومة من تركيا ضمن عملية «درع الفرات»، على ريفي حلب الشمالي والشرقي، بما في ذلك الباب. وكانت دمشق قد أطلقت بدورها عملية لاستعادة السيطرة على ريف حلب الشرقي، وسيطرت على قرية عين البيضا ومطار كويرس، وصولاً إلى مدينة تادف جنوبي الباب، والخفسة ومسكنة على ضفة الفرات.
بعد ذلك، ستتوقف المياه عن الجريان بين محطتي الخفسة وعين البيضا وخزان جبل الشيخ عقيل، وستنقطع عن مدينة الباب بحجة تضرر المحطتين جراء العمليات العسكرية. في العام 2019 أعلنت دمشق وضع محطة الخفسة في الخدمة، بينما ظلّ مصير عين البيضا غامضاً.
وساطة نادرة
أعلن المجلس المحلي لمدينة الباب وريفها، في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، عن توقيع بروتوكول مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) لبدء أعمال التأهيل لمحطة مياه عين البيضا وإصلاحها وتأمين الموارد والمعدات والكهرباء. لكن المشروع لم ينطلق رغم توقُّع إنجازه في أشهر قليلة، بحسب رئيس المجلس المحلي محمد هيثم الشهابي في حديثه مع جريدة «عنب بلدي».
آثر المجلس المحلي في مدينة الباب عدم إطلاعنا على أسباب تعثر عملية الإصلاح للمضخة التي زارتها اللجان المكلفة من اليونيسف، وسط غياب الحلول الجذرية للأزمة المتجددة.
وبرغم عدم الكشف عن ذلك، فمن شأن عملية الإصلاح حال حصولها أن تكون أشبه بسابقة هي الأولى من نوعها منذ سنوات، تتولى عبرها منظمة دولية التنسيق بين دمشق وأطراف معارضة لإصلاح مرفق حيوي مائي، فالمحطة تحت سيطرة دمشق، غير أنها تضخّ إلى الباب الواقعة تحت سيطرة المعارضة. كانت مدينة حلب قد شهدت خلال سنوات المعارك الدامية مبادرات وساطة من هذا النوع، ولا سيما بين دمشق، وبين «جبهة النصرة» التي سيطرت لسنوات على محطة سليمان الحلبي في مدينة حلب، المسؤولة عن تغذية المدينة بشطريها (الشرقي تحت سيطرة فصائل معارضة، والغربي تحت سيطرة دمشق).
نهر الذهب.. ذهب!
خلافاً لحالها اليوم، وهيمنة الجفاف عليها، كانت منطقة الباب سابقاً مزدهرة ونشيطة في قطاع الزراعة المروية وتحوي سهولاً زراعية تكانت تُعد من أخصب الأراضي الزراعية في محافظة حلب إذ تمتد على ضفاف نهر الذهب، الذي كان يصل من شمالي قباسين حتى جنوبي بلدة تادف قاطعاً طريق الـ M4، ووصولاً إلى سبخة الجبول شرق حلب.
وتكوّن مجرى نهر الذهب من أقنية رومانية تصب من ثلاث محاور، فالأول من شمال بلدة حزوان باتجاه مدينة الباب قرب مفرق قباسين، والثاني من شمال شرق قباسين، والثالث من جنوب شرق بزاعة ويصب في السهل الجنوبي، حسب شهادات محلية أكدت نشاط مياه النهر في منتصف القرن الماضي.
كانت ترفد نهر الذهب مجموعة من الينابيع، أهمها: نبع البط ونبع المنصورية، حيث كان يروي الأراضي الزراعية والسهول المحيطة، قبل أن يبدأ جفاف النهر في أواخر خمسينيات القرن الماضي، بحسب ما أوضح محمد خلف، وهو مزارع من الباب يحمل شهادة الماجستير في التاريخ.
..والنبات في عهدة الهطولات
تُمثل الباب نموذجاً للعديد من المناطق الممتدة بموازاة الحدود مع تركيا في الشمال والشمال الشرقي السوري. وبرغم وفرة الأنهار في تلك المنطقة، انخفضت غزارة معظمها، وصولاً إلى حد الجفاف في بعض الأحيان، لأسباب بعضها طبيعبي وبعضها يتعلق بتعديات تركية وتهاونٍ سوري رسمي منذ عقود.
ينطبق الأمر على الأنهار الصغيرة مثل الذهب وعفرين في ريف حلب، وصولاً إلى الأكبر مثل الخابور والبليخ في ريف الحسكة، مروراً بأكبرها: الفرات. وعلاوة على الأثر المباشر الذي يتركه الأمر في حياة الناس من حيث افتقاد موارد مياه الشرب، يؤثر أيضاً بشكل كبير على الزراعات والمحاصيل المرويّة مع ما يعنيه ذلك من تهديد الأمن الغذائي، بينما يُترك الغطاء النباتي في عهدة الأمطار ومعدلات هطولها السنوية التي تتباين بشدة تبعاً لتأثيرات التغير المناخي، فيسوء الوضع حيناً، ويتحسن حيناً، من دون أي إجراءات بشرية مستدامة.
تغير الغطاء النباتي في شمال شرقي سوريا بين العامين 2017 و2024 by SOT-SY
الجفاف يهدّد كامل البلاد
بشكل عام، تُعد سوريامن بين البلاد المهددة بالجفاف، ويُحذر خبراء من أنّ البلاد بأسرها ««تتجه نحو الجفاف خلال الأعوام الخمسين المقبلة نتيجةً للتغيرات المناخية، وقد تنجم أزمة كبيرة في حال عدم اتخاذ التدابير اللازمة».
وتُعاني معظم الأنهار السورية من انخفاض في الغزارة والمنسوب، إلى حد جفاف بعضها، واحتمالات جفاف بعضها الآخر. على سبيل المثال كان حجم المياه المتاحة العام 2016 في نهر الفرات 7933 مليون متر مكعب، أما الطلب المتوقع بحلول 2050 فهو 8073 مليون متر كعب، والمتاح في دجلة والخابور عام 2016 كان 2207 مليون متر مكعب، بينما يتوقع ارتفاع الطلب في 2050 إلى 4463 مليون متر مكعب، ويتكرر التباين في ما يخص العاصي مع 2246 مليون متر مكعب العام 2016، مقابل طلب متوقع حجمه 3142 مليون متر مكعب في 2050.
وبالعموم، يتوقع خُبراء أن يكون لتغير المناخ تأثير شديد على موارد المياه في سوريا، ما سيقلل إجمالي المياه المتاحة سنوياً بنسبة 32% في العام 2050. وفي الوقت نفسه، سيزداد الطلب على المياه بنسبة 15% نتيجة للنمو السكاني.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0