كميل أبو الطيب
نحو مليون وحدة سكنية جرى إنشاؤها خلال العقد الأول من الحرب فقط. لم يعد الرقم بضخامته المهولة خافياً على دوائر القرار والمعنيين في الملف العمراني والإحصائي في سوريا، وقد تمكّنّا من مطابقته وفق مصادر بعضها يجزم، وبعضها يخمن.
كان من تلك المصادر نقابة المهندسين ومحافظة دمشق بمكاتبها المختصة ومجلسها ومكتبه التنفيذي ودوائر الخدمات في البلديات، وصولاً إلى مصادر مطلعة في وزارة الإدارة المحلية ووزارة الأشغال العامة والإسكان. وفق بعض المصادر قد يكون الرقم أكبر بكثير، فقبل تسع سنوات كانت تقديرات مصادر في نقابة المهندسين بدمشق تشير إلى أن عدد الوحدات المخالفة تجاوز المليون في كامل سوريا، ما هو الرقم اليوم إذاً؟!
تبدو دمشق مع هذا الارتفاع الكبير في أعداد المساكن أشبه بكتل إسمنتية متراصة لا أحد يعلم كيف يتجاوز مداخلها ومخارجها، ولا من أين سيخرج إذا ما دخل. تظهر هذه الكتل جلية في مناطق مخالفات تصل فيها السيارات نقطة معيّنة، ثم يصير السير على القدمين وسيلة الإكمال في دروب صاعدة لا تنتهي إلا بقمم مرتفعة للغاية. هكذا حال حي المزة 86، الأشهر بين نظرائه في دمشق وقد بني بأكمله مخالفاً للمعايير، على أراضٍ تتبع ملكية الدولة لا الأفراد. ثم كغيره لحقه في خلال الحرب نشاطٌ عمراني هائل جعل امتداداته مرهقة للنظر.
ملكيّات من ماء!
قبل نحو عامين نقلت صحف محلية عن محافظ دمشق حديثه عن وجود 21 منطقة سكنية مخالفة في العاصمة، ومعظمها «لا يقبل التسوية»، وسيكون مصيرها الهدم حتى «لو كانت مرصعة بالألماس».
لا تزال هذه الجملة عالقة في أذهان سكان العشوائيات الكثيرة. يقول المهندس طلال عيني وهو أحد سكان المخالفات في حي المزة 86: «طبيعي أن يعتاد المحافظ على الألماس وألا يبالي به، فتلك قيمة الهدايا التي يتلقونها، بالله أين يسكن هو؟ في أبو رمانة أم المالكي أم يعفور؟».
ويتساءل: «ماذا يعرف المحافظ عن فقرنا وحياتنا وطوفان المجارير علينا وغرقنا في الوحل وذلّنا في انتظار وسائل النقل ودفعنا أثماناً باهظة لامتلاك منزل وهمي لا نمتلكه فعلياً فأرضه ملكية دولة؟».
بدوره، يسكن عمران عيسى في الـ86، بعدما سُرّح من الجيش في نهاية خدمة عسكرية دامت تسعة أعوام. لكن هذا الشاب المتزوج وله طفلة يعُرب دائماً عن خوفه إزاء احتمال هدم المنزل، يقول: «أكبر منطقة في الحي اسمها ساحة الضباط، وقد دفع السكان الذين يزيدون عن المليون ثمناً باهظاً في ظل التفجيرات والقذائف الهاون»، ويعرب عن اعتقاده الراسخ بأنهم «لو أخرجونا لن يعوضونا».
كلّها مدنٌ لا تنفع معها مشاريع «التعافي المبكر»، أو الترقيع على غرار مدّ كبل كهرباء أو محولة صغيرة أو فتح حفرة صرف صحي جديدة، إنما هي مدن تحتاج إعادة إعمار فعلي
ويتجه الناس إلى السكن في منطقة الـ86 لأنها قريبة جداً من وسط البلد، فلا تبعد عن ساحة الأمويين سوى نحو كيلومتر أو أكثر بقليل. لكنهم يفعلون ذلك أيضاً بسبب الغلاء الفاحش في أحياء العاصمة وبُعد الضواحي والريف. وقد تجاوزت أسعار بعض البيوت في منطقة المخالفات تلك مليار ليرة سورية (70 ألف دولار)، فيما ثمة عقارات تبلغ قيمة إيجارها شهرياً 500 دولار.
حين يتملّك الناس في الـ86، لا يحوزون على ملكية الأرض و«الطابو الأخضر» والأسهم والفرز العقاري، أو حتى وثيقة الكاتب بالعدل أو حكم المحكمة. ما يحوزونه هو فقط ملكية ساعتَي الماء والكهرباء بعد تنازل البائع عنهما، فيغدوان ضماناً وحيداً للملكية! وهذا ما جرت عليه العادة هناك منذ عشرات السنين.
إنها العادة التي صارت عرفاً قبلت به الدولة بحكم قوة الانتشار السكاني. وفيما يرفض القانون استملاك أراضٍ عامة فيظل سيفاً مصلتاً قد يهوي في أي لحظة، فإن الخصم سيكون هنا مئات الآلاف ممن دفعوا جنى أعمارهم.
الإخلاء والسقوط سريعان في حلب
تتوالى من حلب أخبار هدم الأبنية باستمرار. واحدةٌ من تلك الأبنية أخلاها مجلس المدينة قبل مدة في حي الصالحين شرقاً، بغية هدمه لأنّه «يعاني تصدعاً في الأساسات»، لتجد ثماني عائلات أنفسها في الشارع بعد قرار جاء على عجالة.
يقول منار، أحد سكان البناء: «لم يسمحوا لنا بإخراج أي غرض من منازلنا إلا ما قلَّ وبسرعة شديدة، بعض الملابس فقط، ولا ندري لماذا كل هذه العجلة؟ كان يمكن منحنا بعض الوقت». ويضيف: «لم يوفروا لنا سكناً بديلاً، وتركونا نفترش الطرقات نحن وعائلاتنا، ولكن لدينا أمل دائماً أن يُنظر في أمرنا سريعاً ويُؤمَّن بديل، وهذا حقيقة ما وعدنا به المسؤولون هنا».
ساكن آخر جرى إجلاؤه من البناء يقول: «من سيعوض لنا؟ كان البناء قوياً، ولا نعلم فعلاً إذا كان مهدداً بالسقوط، فالجهات المعنية حاولت لساعات كثيرة قبل أن تتمكن من إسقاطه».
هذا القرار المستعجل بالهدم، كما غيره، تُصدرهم لجنة السلامة المختصة في مجلس مدينة حلب، والتي تعنى بمراقبة وضع المباني وسلامتها الإنشائية والعمرانية.
وأفاد مصدر في المجلس بأنّ «هذا القرار شأنه شأن كلّ عمليات الهدم التي سبقت والتي ستلحق ضروري للحفاظ على السلامة السكانية، على اعتبار أنّ مئات الأبنية تعاني من تهبطات وهي بالأصل مقامة دون أسس متينة».
وأوضح أنه ثمة «أكثر من 10 آلاف وحدة سكنية مخالفة أقيمت في حلب خلال الحرب»، مرجعاً سبب «التأخر في تأمين أمكنة بديلة» إلى أنّ الأمر «يتطلب دراسة أبعد لتشمل مصير كل العائلات في الأبنية الآيلة للسقوط».
تكرّرت في الأعوام الأخيرة حوادث سقوط مبان في حلب، سواء بصورة جزئية أم تامة، فيما يعزو المهتمون الأسباب إلى آثار الزلزال المدمّر الأخير، لكن أيضاً المخالفات وعدم تشييد أسس متينة، فضلاً عن عمليات القصف والتفجير التي لم تهدأ في المدينة طوال سنوات.
وحال حلب كحال أخواتها بصورة ما، فمدينة حمص دُمر نحو نصف أحيائها، وكذلك دير الزور، وأرياف حماه واللاذقية ودمشق وإدلب وغيرها. وكلّها مدنٌ لا تنفع معها مشاريع «التعافي المبكر»، والترقيع على غرار مدّ كبل كهرباء أو محولة صغيرة أو فتح حفرة صرف صحي جديدة، إنما هي مدن تحتاج إعادة إعمار فعلي وإلا ظلّت تهبط على رؤوس ساكنيها.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0