حبر سرّي
الصورة: (من جلسة نقاش مع الكاتبة / Howard County Library System - فليكر)
قبل نحو خمس سنوات، قالت الروائية النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي (Chimamanda Ngozi Adichie)، في محاضرة بمدينة قرطاجنة الكولومبية حول غابرييل غارسيا ماركيز: «أن تبدأ قصة، قصة حقيقية، بالتفكير في الانسجام هو بالفعل وضع عقبة في طريق تلك القصة، لأنّ ما يجب التركيز عليه ليس الانسجام، بل الحقيقة».
لعلّ بحث نغوزي أديتشي عن «الحقيقة» في روايتها هذه «نصف شمس صفراء» سببه الانتماء إلى بلدٍ كان يُنظر إليه على أنّه من أكثر البلدان الواعدة في أفريقيا جنوب الصحراء في مرحلة ما بعد الاستعمار. بدت إمكانات التنمية لا حدود لها في ظل اكتشافات الطاقة، لكنّ نيجيريا، شأنها شأن كثير من دول «ما بعد الاستعمار»، خاصة في أفريقيا، ولِدت كأنّها مجموعة من «شظايا مثبتة في مشبك هش»، وفق نظرة الروائية النيجيرية إلى تاريخ بلادها. هذا ما تقوله عبر روايتها المتمحورة حول احتراب اشتعل رسمياً في نهاية أيار/مايو 1967 مع محاولة ولايات الجنوب الشرقي النيجري الاستقلال عن الدولة الاتحادية، وإعلان «جمهورية بيافرا المستقلة»، ليدوم ثلاث سنوات حالكة في تاريخ القارة، ويُخلف مليون ضحية على الأقل، ولا تزال آثاره ماثلة حتى اليوم في إقليم بيافرا. إنها الحروب الأهلية مرة أخرى!
لم تشذّ «حرب بيافرا» عن قاعدة التدخل الخارجي، فانخرطت كثير من الدول والكيانات الخارجية فيها، مثل بريطانيا، وفرنسا، و«إسرائيل»، والصين، والبرتغال، وقد تكون المعلومة الأغرب بالنسبة إلينا - نحن السوريين والسوريات - أن سوريا كانت حاضرة على خط دعم الجيش النيجيري، بوصفها جزءاً من «الجمهورية العربية المتحدة» برئاسة جمال عبد الناصر.
على لسان طفل
تعددت الأصوات وتنوعت الأفكار في الرواية بالتناوب بين خمس شخصيات محورية. «أولانا» هي الشخصية الرئيسة: فتاة مثقفة، تحيا مع حبيبها المثقف الثوري «أودينيبو» حياة الثوار المثقفين، حياة مُطعمة بالوعي والثقافة والنضال من أجل المضطهدين في جنوب نيجيريا. كان أودينيبو ناقماً على العنصرية، «عنصرية العالم الأبيض ضد كل ما هو أسود». تلك العنصرية التي «لم تنتهِ أبداً مع انتهاء الاستعمار». أما أولانا، فهي الأخت التوأم الأكثر جمالاً والأكثر تحرراً من قيود الأسرة لـ «كاينين»، التي كانت - على النقيض من أختها - ذات شخصية قوية، سيدة أعمال، يشكل الاقتصاد وإدارة أعمال والدها الثري محور حياتها، بعيداً من الإنسانية ومتطلباتها.
لم تكن العلاقة التي جمعت الأختين متينة قبل الحرب، حتى أن أولانا لو كالمت كاينين، كانت «تشعر بدفقة من الحزن، توأمها تفكر أن شيئاً لا بد قد حدث لأنها هاتفتها». وفي أوقات حزنها، لم تكن تجد من تتكئ عليه، وكانت «تتمنى أن تكون مختلفة، تكون من الناس الذين لا يحتاجون أن يتكئوا على أحد، مثل كاينين». ثم مع اندلاع الصراع، توطدت العلاقة بينهما، حتى حظيت أولانا بحضن من أختها، التي كانت تخبرها أن «كل شيء سيكون على ما يرام، وسينتصرون». وكانت أولانا «تُصدّق كل ما تقوله كاينين».
تقع كاينين في حب ريتشارد، وهو رجل إنكليزي ذو مبادئ، مُختلف لأنه «لم يكن يشعر بالتفوّق». كان ريتشارد «يجد صعوبة في التعامل مع الرجال الذين كان معظمهم إنكليز، مدراء ورجال أعمال ما قبل الكولونيالية الذين كانوا يتشاجرون حول طبيعة سياسات نيجيريا القبلية، وحول أن أولئك الرجال لم يكونوا بعد مستعدين للحكم الذاتي رغم كل ذلك».
يتبنّى ريتشارد قضية بيافرا، ويكتب كتاب «العالم كان صامتاً حين كنا نموت»، ليؤرخ أحداث تلك الحقبة، مستخدماً نون الجماعة إشارة إلى أن قضية بيافرا هي قضيته الأم. وبذا، صوّب غضبه ضد دولته والعالم كله الذي وقف صامتاً إزاء الموت الذي كان يحدث في نيجيريا. مع تتالي الأحداث، وبعد اختفاء كاينين، تبيّن أن انتماءه كان إليها أكثر من أي شيء آخر، إذ «شعر باختفائها أنه بات كشجرة اقتُلعت من جذورها».
سرق الجوع ذاكرة الأطفال، وتعلموا كيف «يجمعون قطعاً من الشظايا، ليلعبوا بها ويتاجروا فيها»، فلم يكن نصيبهم من القتل أقل وفرة، حتى صار «حفر قبر صغيرٍ عملاً روتينياً»
جرت أحداث الرواية على لسان الطفل القروي ذي البشرة الداكنة، «آجوو». كان يبلغ من العمر عشر سنوات عندما أحضرته عمته ليخدم في بيت البروفيسور «أودينيبو». صُعق الطفل الأميّ لكونه «سيحظى بحياة كريمة في منزل السيد»، الذي عامله كطفل له، ينام على سرير في غرفة مضاءة بالكهرباء، يشرب ماءً بارداً من الثلاجة، يأكل اللحم على نحو يومي، يختبر عالم الأكاديميين، وينمو معه الوعي بالحرية والحلم بالاستقلال.
يمثّل آجوو وجه بيافرا الحقيقي. فقد كان ترابياً، ابن القضية الأصلي، تثقف على يدي سيده حتى ملك من الوعي الثوري والسياسي ما يخوله النضال من أجل قضيته. خدم في الجيش الثائر، وانتشر خبر موته، إلا أن عودته إلى الحياة مثّلت الأمل الذي حاولت الكاتبة عقده في عواميد روايتها. عاد ليكتشف أن أخته اغتُصبت، ويعاين حجم المأساة التي خلفها «الهاوسا» بحق «الإيبو» وبحق كل من تسوّل له نفسه الانفصال، ما انعكس ثورةً في أعماقه وتشبّثاً بقضيته.
قبر صغير.. كأنّه عمل روتيني
عالجت الكاتبة النيجيرية في روايتها جملةً من المواضيع المختلفة التي تصبّ في أتون الحرب. ركزت بدايةً، بلسان شخصيات روايتها، على الاستعمار، أي أولئك «الذين رسموا هذه الخريطةَ، وقرروا أن يضعوا أرضهم فوق أرضنا، لا فوقَ ولا تحتَ هناك». وأشارت إلى سرقته موارد البلاد التي ترزح تحت سيطرته، بالقوة أحياناً، وأخرى بالتواطؤ مع «الأمراء المتعاقبين الذين يجمعون الضرائب لبريطانيا». إذ ما لمس الاستعمار البريطاني لنيجيريا قضية إلا وشوهها، ولا قطاعاً إلا وخلّفه خراباً.
كما أثارت قضية التمييز العنصري من الرجل الأبيض ضد ذوي البشرة الملونة. ذلك الرجل الذي جردهم من إنسانيتهم فكان يراهم مجرد «قردة ممنوعين من دخول دور السينما»، واستغل ثرواتهم ورآهم «غير مؤهلين لحكم أنفسهم». كما استغل النساء ذوات البشرة الملونة جنسياً في نوع من أنواع «الرقّ الجديد». لقد كانت حياة ذوي البشرات الملونة وموتهم سواء بالنسبة إليه. وهكذا أصبح كل الناس «متشابهين، جميعهم يقعون تحت القمع الأبيض». ولّد ذلك كرهاً في قلوب المُستغَلّين تجاه الرجل الأبيض، فكانت سعادتهم تكمن في معرفتهم بأن «الجنس الأبيض ليس خالداً وأبدياً».
لم يكن التمييز العنصري في الرواية - التي حُوّلت إلى فيلم - هو جلّ ما عانى منه النيجيريون الإيبو، إذ تُتّهم جماعات الهاوسا التي تقطن غالباً في الشمال، بعنصرية مقززة تجاههم. فقد «منعتهم من التعلم في مدارس الشمال»، ومن المشاركة في السلطة، فكان «الشماليون معظمهم في الحكومة».
تطرقت الروائية كذلك إلى أهمية التعليم لمجابهة الظلام الدامس الذي يحيق بالإيبو. عبّر عن ذلك السيّد عندما خاطب آجوو قائلاً: «التعليم أول الأولويات! كيف نقاوم الاستغلال إذا لم نمتلك أدواتِ إدراكه؟». وفي مجابهة الهاوسا الذين منعوا الإيبو من الالتحاق بمدارسهم، وتخليداً لذاكرتهم ولإيمانها بأن القضية ستنتصر على أيدي الشاهدين على ما يلحق بالإيبو من تنكيل وعذاب، أقامت كاينين صفوف دروس تعليمية لأطفال الحرب الإيبو تحت الشجرة.
تقدم الرواية تأريخاً وثائقياً مهماً عن الحرب الأهلية النيجيرية، التي كانت من أشد نزاعات أفريقيا دموية، وأسفرت عن مئات الآلاف من الضحايا، الذين كانوا «يُقتلون كالنمل»، وعن معاناة إنسانية هائلة. ساد الجوع، فصار الأطفال «دمى مرتعدة بسيقان عصوية»، حاربوا الجوع بـ «مطاردة السحالي»، سيطر الخوف والرعب، ومشاهد القتل والتعذيب، فلم يبقَ في ذاكرة الناجين إلا «صورة عن الجدائل التعسة الساقطة فوق الوجه البني القاتم. العينان مفتوحتان على الرعب، وفم يصنع اندهاشة صغيرة».
هناك حيث كانت تسود «الرائحة البشعة للأجساد غير المغسولة، اللحم البشري المتعفن من الأضرحة وراء البنايات». أما الأطفال الذين «سرق الجوع ذاكرتهم»، وتعلموا كيف «يجمعون قطعاً من الشظايا، ليلعبوا بها ويتاجروا فيها»، فلم يكن نصيبهم من القتل أقل وفرة، حتى صار «حفر قبر صغيرٍ عملاً روتينياً».
تبدو الروائية شديدة الإخلاص لمهمة «البحث عن الصوت الآخر»، هي التي ترى أننا «إذا سمعنا قصة واحدة فقط عن شخص أو بلد آخر، فإننا نخاطر بسوء فهم».
عقد الأمل
انتهت الحرب بـ«انتصار» القوات النيجيرية والاندماج السياسي لبيافرا مجدداً في نيجيريا، لكن آثار الحرب استمرت طويلاً على النسيج الاجتماعي والسياسي في البلاد، فـ«الجوع لم ينتهِ، والأمل بالانتصار والتحرر لم يخمد أبداً». لكن «الحب خيط من المصادفة يجمع الإشارات ليصنع معجزة».
في خضم هذه الفوضى، اختارت الروائية الحبّ ليُعقد عليه الأمل، ويخفف وطأة الصراعات ويهوّن طريق النار، ليصنع معجزة لشخصيات رزحت تحت وطأة الحرب. كان الحبّ هو موطن ريتشارد الوحيد، في حضن كاينين «شعر بالانتماء إلى مكان ما للمرة الأولى». لقد تبنى قضية كاينين، حتى تمنى «لو يمد يده ويعتصر السماء لكي يمنح النصر لبيافرا فوراً، من أجلها».
أما حُبّ أولانا لأودينيبو، فأسهم في تكوين وعيها الثوري. كان حنين أولانا إلى حبيبها قبل الحرب، عندما «كان شرابه في نسوكا يجعل ذهنه حاداً، يقطّر أفكاره وثقته بنفسه حتى أنه كان يجلس في قاعة المعيشة ويتكلم ويتكلم فينصت الجميع»، وجهاً من وجوه حنينها إلى الوطن سالماً، إلى الوطن قبل الدم، إلى وطن مقنّع بسلام ظاهري.
وعلى الصعيد الأسري، تخلّت أولانا عن كثير من معتقداتها وأفكارها، وباتت تؤمن بالأساطير والخرافات، «تؤمن بكل شيء سوف يعيد إليها شقيقتها»، كنوع من أنواع المسكنات. لقد تجاوزت الشخصيات بحبها حدود الألم، ولامست أعماق الحنين والخيبة.
الخطيئة.. والهوية والمصير
عبّرت شيماماندا في روايتها عن مرحلة دامية في تاريخ نيجيريا بوعي سياسيّ لافت. لقد طعّمت روايتها برؤى أيديولوجية وأفكار تحررية ما أعطاها طابعاً فريداً. وبسردها للأساطير والطقوس والغرائبيات، نقلت إلينا وجوهاً من ثقافة القارة السمراء من مختلف جوانبها.
«الكلمة التي ليست قبيحة بما يكفي، إنها الخطيئة». ولتجنّب الخطيئة، دعت روائيتنا القارئ/ة إلى التأمل في مسارات القضية، والإجابة عن تساؤلات الهوية والمصير.
بذلك، كان على القارئ أن ينغمس في الرواية حدّ التماهي، وكأنه لا يقرأ عن تاريخ حرب في بلد آخر أو قارة أخرى، بل إن ما يحدث هناك يعنيه، كما يعني البشرية جمعاء. وهكذا تصبح هذه الرواية تجسيداً لقضية تهمه، إن لم نقل لقضيته الأساسية.
تشيماماندا نغوزي أديتشي، نصف شمس صفراء، ترجمة وتقديم: فاطمة ناعوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009، عدد الصفحات: 608
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0