وضاح ذ. الأشقري
الصورة: (مدينة داريّا 2013 - عدسة شاب ديراني/فليكر)
لم يستطع أبو حسام بيع شقته «المعفّشة» في مدينة داريّا، ورغم أنه طرحها للبيع مدّة تجاوزت العام فإن أفضل مبلغ عُرض عليه «كان يساوي أقل من 20% من ثمنها الحقيقي». لم تتوقف مأساة الرجل الخمسيني المهجّر هنا، ففي النهاية خسر شقته الوحيدة، بعد أن قررت السلطات هدم المبنى الذي يضم الشقّة، تطبيقاً للقانون رقم 3 للعام 2018، الذي ينص على «إزالة أنقاض الأبنية المتضررة».
برز مصطلح «المنازل المعفّشة» عقب عودة أهالي كثير من النازحين إلى بيوتهم، ومن بينهم سكان «مدن التسويات» في ريف دمشق، لتكون الصدمة كبيرة لكثير منهم، فحجم الدمار كان مهولاً، والشقق السكنية الناجية من التدمير بالقنابل، لم تنج من «التعفيش»، وهو عبارة عن سرقات مُنظّمة على أيدي مجموعات و«لجان» تنتهي هرميّتها عند «المكتب الاقتصادي للفرقة الرابعة»، وهي تسمية غير رسميّة لجهاز غير رسميّ يُحكم قبضته على كثير من مفاصل الاقتصاد السوري، بما في ذلك «الاقتصاد الأسود».
يوضح أبو حسام لـ«صوت سوري» أن شقته بعد عودة بعض الأهالي إثر «التسوية» إلى داريا كانت خالية من بلاط الأرضية، وسيراميك الحمام والمطبخ، بينما سُحبت أسلاك الكهرباء من داخل الجدران، وبالطبع سُرق الأثاث الذي كان عبارة عن غرفة نوم وغرفة جلوس وغرفة طعام وأدوات كهربائية.
ما قصة المنازل «المعفشة»؟
بين العامين 2015 – 2019 شهدت مناطق عديدة من ريف دمشق نشاطاً مكثّفاً لمجموعات «التعفيش» التي كانت تدخل كلّ منطقة تنسحب منها المجموعات المسلّحة (المعارضة)، وتبدأ عمليات النهب، قبل سماح الجيش بعودة السكان إثر «التسويات».
مع ابتعاد المعارك، واستتباب شيء من الاستقرار شهد سوق العقارات نشاطاً نسبيّاً، وكانت المنازل «المعفّشة» في رأس قائمة العقارات المعروضة للبيع.
يقول وسيط عقاري من مدينة كفربطنا خلال حديث لـ«صوت سوري» إن هذه المنازل تنقسم إلى «بيوت تعفيش خفيف، وأخرى تعفيش كامل. والفارق بينهما في حجم الإكساء المسروق، فالعقارات ذات التعفيش الخفيف يتوافر فيها غالباً بلاط الأرضيات، وتمديدات الكهرباء، وأحياناً بعض الأثاث، أمّا البيوت المعفشة بالكامل فتكون على العظم».
يشرح الوسيط الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية أن عرض، وشراء الشقق «المعفّشة» تزايد في تلك المرحلة لأنّ كثيراً من ملّاكها مهجرون ونازحون (إلى الشمال، أو خارج سوريا)، وهؤلاء كانوا راغبين في البيع بسرعة «استباقاً لاستملاكها المحتمل بسبب القوانين الجديدة، بينما يقبل بعض الزبائن على الشراء لرخص أثمانها».
لا يكفي الرضوخ لقوانين العرض والطلب، والقبول بأثمان بخسة لضمان عمليات بيع سلسة، خاصة حين يكون المالك نازحاً أو مهجّراً
لا يوجد سعر محدد للعقارات في مدن التسويات، فالأمر خاضع للعرض والطلب، فضلاً عن تغيرات أسعار صرف الدولار التي تترك بصمتها على تسعير كل شيء، رغم أن عمليات البيع والشراء تكون بالليرة السورية.
وسطيّاً يراوح سعر المنزل «المعفش» بمساحة 100 متر مربع بين 60 - 150 مليون ليرة سورية، تبعاً لدرجة «التعفيش».
يصعب تحديد نسبة دقيقة للمنازل «المعفشة» في مناطق التسويات، لصعوبة إجراء مثل هذه الإحصائيات، لكنّ شخصاً واحداً من أصل ثمانية مُلاك عقارات تحدثوا إلى «صوت سوري» أكد أن منزله لم يتعرض للنهب، فيما «عُفّشت» بيوت السبعة الآخرين.
عقبات ومعوقات
لا يكفي الرضوخ لقوانين العرض والطلب، وقبول أصحاب الشقق المتضرّرة بأثمان بخسة لضمان عمليات بيع سلسة، لا سيّما حين يكون المالك نازحاً أو مهجّراً. وفيما يستطيع كثير من السكان المقيمين في مدن التسويات إتمام الإجراءات ولو بصعوبة، قد يتعذّر الأمر في حالة المُلّاكِ المهجرين لا سيّما حين تكون العائلة بأسرها مُهجرة أو نازحة، إذ يصعب الوصول إلى محامين أو أقارب لتوكيلهم بحق التصرف بالعقارات، خاصة مع التخوف من احتمال اعتقال الشخص الموكل من قبل أشخاص مهجرين، وإلى اشتراط التعاميم الصادرة عن دمشق الحصول على الموافقة الأمنية لإتمام إجراءات الوكالة العامة.
حاول محمد رجب، أحد مهجري المليحة شرقي دمشق، بيع شقته «المعفّشة» في المدينة مرات عديدة، لكنه لم يستطع توكيل أحد أقاربه لتوقيع عقد البيع وإجراء معاملة نقل الملكية إلى المشتري، بسبب تخوف الأقارب من الملاحقة الأمنية.
يشرح محمد أن إتمام البيع يتطلّب حضور البائع والمشتري (أو وكيليهما) والشهود، لكن أكبر عائق يحول بين المُهجر وحق التصرف بعقاراته هو «بُعد المُهجر عن أملاكه وعدم تمكنه من إجراء وكالات قانونية بسبب عائق الموافقة الأمنية».
يخشى مُلّاك المنازل «المعفشة» والآيلة للسقوط من كثافة القوانين التي أصدرتها دمشق بين العامين 2011 - 2021، ويمكن أن تشكل أرضية لخسارة عقاراتهم
يواجه المُلاك المهجرون معوقات أخرى، مثل معاملة حصر الإرث في حال كان العقار مملوكا لشخص متوفى، إذ نادراً ما يكون كامل الورثة موجودين في بقعة جغرافية واحدة.
لم يتمكن أبو عبد الرحمن، أحد سكان مدينة داريا، من الحصول حتى الآن على حصته من بناء «مُعفّش» كان والده المتوفى يملكه، بسبب عدم اكتمال معاملة حصر الإرث نتيجة وجود اثنين مهجرين بين أشقائه.
يؤكد أبو عبد الرحمن لـ«صوت سوري» أن معظم الورثة يريدون بيع العقار بسبب حاجتهم إلى المال، وأنهم حاولوا بطرق عديدة الحصول على توكيل من الشقيقين المهجرين، لكن دون جدوى.
نتيجة لما سبق، يضطر البائع والمشتري في أحيان كثيرة إلى الاكتفاء ببيع العقار «على العقد» وتأجيل معاملة نقل الملكية «حتى إشعار آخر». بالطبع يؤدي هذا إلى تدنّي ثمن العقار المباع بتلك الطريقة، إلى حد فقدانه ثلاثة أرباع قيمته الفعلية في في كثير من الحالات.
«سوق عمل»!
أوجدت المنازل «المعفّشة» أو المتهدمة «فرص عمل» لكثير من سكان مدن التسويات، وذلك بسبب كثرة عددها من جهة، ولتهجير أو سفر ملاكها من جهة أخرى، إذ يلجأ قسم من الملاك إلى توكيل أشخاص من معارفهم لترميم وإكساء منازلهم، وفق نظام «التعهّد» بحسب ما يوضح أبو عادل، وهو أحد الأشخاص العاملين في هذا القطاع ويقيم في مدينة المعضمية بالقرب من العاصمة.
يشرح أبو عادل لـ«صوت سوري» أنه يستلم المنزل «المعفّش» أو المتضرر، ويشرف على ورش الترميم، والكهرباء، والإكساء، والدهان، ثم يسلم المنزل «على المفتاح»، لقاء مبلغ مقطوع يحصل عليه من مالك العقار. وعادة ما يلجأ المهجرون واللاجئون من ملاك هذه العقارات إلى تأجيرها بعد الانتهاء من عمليات الترميم والإكساء، لكن كل هذه التكاليف الباهظة لا تزيل مخاطر هدم العقار أو حتى مصادرته، فالقوانين المهددة لهذه الملكيات كثيرة جداً.
قوانين مُهدِّدة
يخشى مُلاك المنازل «المعفشة» والآيلة للسقوط لا سيما المهجرون من كثافة القوانين التي أصدرتها دمشق بين العامين 2011 - 2021، ويمكن أن تشكل أرضية لسحب ملكية العقارات منهم.
تفيد إحصائية أجراها موقع «فوكس حلب» بصدور 428 قراراً ومرسوماً وقانوناً، تتصل بالأملاك والعقارات، استملاكاً وتنظيماً وتطويراً وغيرها، خلال العقد الأخير فقط.
يأتي القانون 19 للعام 2012 على رأس تلك القوانين، وهو القانون الخاص بـ«مكافحة الإرهاب»، وينص على تجميد أموال ومصادرة ممتلكات.
كما ينص تعميم وجهه مجلس الوزراء إلى وزارة الإدارة المحلية تحت رقم 463 للعام 2015 على «إخضاع جميع عمليات بيع العقارات أو الفراغ في المناطق المنظمة وغير المنظمة إلى شرط الحصول الموافقة الأمنية»، وهو تعميم اعترضت عليه وزارة العدل لأنه «مخالف للدستور».
فيما يختص القانون رقم 3 للعام 2018 بـ«إزالة أنقاض الأبنية المتضررة نتيجة أسباب طبيعية أو غير طبيعية أو خضوعها للقوانين التي تقضي بهدمها». أما القانون رقم 10 للعام 2018 فيقضي بالسماح بإنشاء مناطق تنظيمية في جميع أنحاء سوريا، ما يعني إزالة مناطق بأكملها وإنشاء أخرى على أنقاضها.