غريب أ.باشا
أخيراً وصلت سناء برفقة اثنين من أولادها الأربعة إلى مدينة داريا في ريف دمشق، بعد أن تركتها منذ أكثر من 10 سنوات حين بدأ رحلة لجوئها مع عائلتها في لبنان.
تشرح سناء بغصّة أنها عادت إلى مدينتها رغماً عنها، تماماً كما غادرتها رغماً عنها، فيما فضّل زوجها وقتذاك البقاء في داريّا والقتال في صفوف إحدى المجموعات المعارِضة، قبل أن يفقد حياته ويُدفن هناك.
بحسرة وألم تقول: «اضطر اثنان من أولادي للبقاء في لبنان لخوفهما من الملاحقات الأمنية، وعدت مع الصغيرين، وزرت قبر زوجي لأول مرة».
وتضيف: «اضطررنا إلى ترك لبنان بسبب الحرب هناك، وعدنا إلى منزلنا في داريا الذي أصيب بخراب كبير أثناء الحرب هنا».
جحيم الإيجارات
أما رامي (57 عاماً) فقد اضطرّ إلى استئجار منزل في مدينته عربين بغوطة دمشق، بعد عودته من لبنان قبل نحو ثلاثة أسابيع، فبيته الذي كان يملكه هنا دُمّر تماماً.
يوضح الرجل أنه عاد برفقة زوجته فقط، وتحت إلحاح أولاده الذين خوفوه من أي إغلاق محتمل للحدود مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان. يلخّص رحلة سنوات طويلة من الشقاء بالقول: «سابقاً تركنا بيتنا هنا لكي نلحق بأولادنا في لبنان، وها نحن نعود مرغمين بدونهم، أما البيت فقد سُوّي بالأرض».
يرى عدنان أن الظروف في لبنان كانت رغم التدهور الاقتصادي «أفضل من سوريا». لكن مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية وتفاقم الخوف من حرب طويلة الأمد، كان قرار العودة «أهون الشرور»
يقول محمد (24 عاماً) وهو أحد أبناء رامي، ويعمل في مجال الإنشاءات في لبنان إنه انتقل من منطقة البقاع الأوسط إلى زحلة للعيش في مسكن شبابي بغية تخفيف النفقات، على أمل أن يستمر في العمل. ويوضح: «انا وأخي نعيل أسرتنا، وسنكون مضطرّين لدفع إيجار المنزل في عربين، ونفقات المعيشة هنا وهناك».
يشرح أن نفقات الرحلة التي أوصلت والديه إلى مدينتهما قرب دمشق تجاوزت 250 دولاراً، توزعت أجوراً للانتقال من البقاع إلى بيروت لإنهاء بعض الإجراءات، ثم التوجه إلى الحدود السورية. «أجرة ذهابهما من المعبر إلى ريف دمشق بلغت وحدها 150 دولاراً، وقد سمح السائق لشخيص آخرين بالركوب معهما».
وتُشكل إيجارات البيوت تحدياً كبيراً للعائلات العائدة إلى سوريا، خاصة بعد أن ارتفعت بشكل سريع من دون أي ضوابط، مع ارتفاع الطلب وعودة اللاجئين. وبشكل وسطي لوحظ ارتفاع بدلات الإيجار في مدينة داريا بنسبة تقارب 50 بالمئة، فقفزت من 500 ألف إلى مليون شهرياً، بينما تتضاعف كلما اقتربنا أكثر من العاصمة، لتصل في حي كفرسوسة القديم مثلاً إلى خمسة ملايين ليرة شهرياًّ.
«المرّ.. والأمرّ»
تضطر كثير من العائلات السورية في لبنان للعودة إلى المناطق التي نزحت منها في وقت سابق، وتعرضت لدمار واسع مع شح في الخدمات، لا سيّما في أرياف دمشق وحماة وحمص وإدلب.
يخبرنا عدنان المنحدر من ريف حماة أنه خرج مع أفراد عائلته تحت وابل من النيران، ودمار كبير لحق بالحي الذي كانوا يقطنونه في إحدى قرى جنوب لبنان، ومكثوا مؤقتاً عند أحد أقاربهم في منطقة الشحيل.
«بعد بضعة أيام قررنا عبور الحدود نحو سوريا لكي لا نثقل على أقاربنا، وقد تمكنت من العودة مع عائلتي لأنني وحيدٌ ولستُ مطلوباً للخدمة العسكرية الإلزامية»، يقول.
يوضح الشاب أن الظروف في لبنان كانت رغم الوضع الاقتصادي المتدهور «أفضل من سوريا، إذ تتوافر فرص عمل جيدة». لكن مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية ووحشيّة الغارات، وتفاقم الخوف من نشوب حرب طويلة الأمد، كان قرار العودة «أهون الشرور». يقول الشاب: «هنا في ضيعنا دمرت العمليات العسكرية كل شيء، ولا تتوافر لدينا سيولة نقدية كافية لإعادة إحياء أرضنا الزراعية».
أرقام
وفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين «اضطرّ السوريون الذين سبق أن التمسوا الأمان في لبنان للفرار مرة أخرى من أجل النجاة بأرواحهم، وحتى 12 تشرين الأول / أكتوبر الجاري، عبر أكثر من 283 ألف شخص إلى سوريا من لبنان؛ 70 بالمائة منهم سوريون والبقية لبنانيون ومن بعض الجنسيات الأخرى».
ويلاحظ ارتفاع نسبة النساء والأطفال الذين يعبرون من لبنان إلى سوريا، ويُقدر أن نحو 60% من إجمالي العائدين تقل أعمارهم عن 18 عاماً.
يتجه كثير من السوريين إلى المناطق التي فروا منها قبل سنوات، غير متأكدين مما قد يجدونه وليس بجعبتهم سوى موارد ضئيلة. فيما يختار آخرون التوجه نحو مناطق لا تخضع لسيطرة دمشق، سواء في الشمال الغربي، أو الشمال الشرقي، تحت ضغط الهواجس الأمنيّة، أو في حال وجود شبّان في سن الخدمة الإلزاميّة.