فرات زيزفون
«من التوتر إلى محاولات التكامل، مرت العلاقات السورية الأردنية بانعطافات كثيرة وخطيرة، كانت سبباً في قطيعة سياسية واقتصادية بين البلدين الجارين لما يقرب من عشرة أعوام أو أكثر»، كانت هذه مقدمة تقرير نشرته صحيفة «البيان» الإماراتية في العام 2000، معتبرة أن عهداً جديداً من الانفتاح بدأ اعتماداً على ما اعتبرته «دبلوماسية الجنازات».
هذه الدبلوماسية منسوبة إلى مشاركة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في تشييع جثمان الملك الأردني الراحل، حسين بن طلال، قبل أن يزور ابنه، عبد الله، دمشق لتقديم واجب العزاء بالأسد الأب، وتهنئة ابنه بشار بتسلمه رئاسة سوريا. لكنها دبلوماسية لم تغيّر طبيعة العلاقات بين البلدين فاستمرت صاعدةً نازلة.
حلو البدايات... ومرّها
بدت العلاقات بين من تربط بينهما حدود يتجاوز طولها 375 كيلومتراً دافئة في البداية، قبل أن تنشب صراعات سياسية جانبية، جراء انتقادات وجهها الملك الأردني إلى سوريا بعد الاحتلال الأميركي للعراق، داعياً دمشق إلى ضبط حدودها.
لم تؤثر هذه الصراعات في مسار الانفتاح، خصوصاً مع مشروع «سد الوحدة» (سد المقارن) على نهر اليرموك بعد عقود من المماطلة والتأجيل، لينطلق العمل على السد فعلياً العام 2003، الأمر الذي مثّل لعمّان قفزة على طريق الأمن المائي، إضافة إلى العمل على تطبيق «اتفاقية استثمار مياه اليرموك» الموقعة في 1987، والتوافق على وضح حد للتداخل عبر ترسيم الحدود وضبط أمنها، بالإضافة إلى التصدي لعصابات التهريب، واتفاقات تتعلق بالأمن الغذائي في الأردن عن طريق توريدات من القمح السوري.
في الوقت نفسه، استمرت الزيارات المتبادلة رغم الفتور الجزئي على خلفية التحالفات الإقليمية، ونمو «محور المقاومة» الذي انتقدته عمّان علناً أكثر من مرة، ورأت أنه «توسع إيراني».
وصل الفتور ذروته في 2008، عندما غاب الملك الأردني عن القمة العربية في دمشق إلى جانب ثمانية زعماء عرب آخرين، واكتفى بتمثيل دبلوماسي منخفض.
غير أن هذا الفتور لم يصل حد القطيعة، بل اتخذت العلاقة منحنى تصاعدياً مرة أخرى بعد زيارة أجراها الأسد إلى عمّان في آذار/مارس 2009، تلتها زيارتان لعبد الله إلى دمشق في العام نفسه: الأولى في أيار/مايو خلال محاولة عمان لعب دور وسيط بين واشنطن ودمشق، في سياق مقترح أميركي يتعلق بـ«السلام مع إسرائيل»، والثانية في كانون الأول/ديسمبر، وحملت طابعاً شكلياً قدم خلالها الملك واجب العزاء بوفاة مجد الأسد.
كذلك، زار الملك الأردني سوريا مرات عديدة في 2010، بالتوازي مع الانفتاح المتزايد في العلاقات الذي وصل إلى إلغاء سمات الدخول للمواطنين (التأشيرات)، واتفاقات اقتصادية بينها الربط الكهربائي وخط الغاز العربي والتسهيلات الجمركية التي ساهمت في زيادة التبادل التجاري بين البلدين، فوصل في 2010 إلى نحو 900 مليون دولار مقارنة بأقل من 70 ألف دولار فقط في 2000!
انقلاب 179 درجة
مع اندلاع الحدث السوري العام 2011، بدأ موقف عمّان يتغير ليصل ذروته في تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، عندما دعا عبد الله خلال لقاء تلفزيوني الأسد إلى التنحي، ليكون أول زعيم عربي يتخذ هذا الموقف. مع ذلك، لم تغلق عمّان سفارتها في دمشق، كما بقيت السفارة السورية في المملكة تمارس عملها في ما يشبه «شعرة معاوية».
مع ذلك، بدأ تحرك كبير ضمن تحالف عربي-أميركي لدعم المعارضة السورية وفصائلها عبر برنامجي تدريب نفذتهما وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) بتمويل خليجي في تركيا (ما عرف بغرفة الموم)، وفي الأردن جنوباً (غرفة الموك).
على خلاف الأولى (الموم) التي منيت بفشل ذريع جراء إخفاق دورتين تدريبيتين انتهت بعدهما الأسلحة الأميركية إلى أيدي فصائل «جهادية»، ذاع صيت الثانية (الموك)، خصوصاً مع الوجود العسكري الأميركي على أجزاء طويلة من الحدود السورية-الأردنية ضمن برنامج أمن الحدود الأردني (JBSP) الذي قدمته واشنطن إلى عمّان، ويشمل الحدود مع العراق أيضاً، وقد جرى استعمال القواعد الأميركية المنتشرة على الشريط الحدودي جنوباً في تدريب فصائل سورية معارضة.
هكذا، وفي 2014، طردت عمان السفير السوري بهجت سليمان بعد تصريحات تنتقد الدور الأردني في الحرب السورية، فيما أبقى الأردن على موظفين لتسيير شؤون السفارة التي لم تغلق، واللافت أن عمليات التبادل التجاري لم تتوقف - رغم انخفاضها الكبير - حتى 2015، عندما سيطرت المعارضة على معبر «نصيب» الحدودي.
كشف مقتل جنود أميركيين وإصابة آخرين عن انتشار أميركي ضمن نقاط حدودية عددها 23 برجاً يتمركز فيها قرابة 3000 جندي
أيضاً في 2014، ومع بدء التحرك الأميركي للانخراط المباشر في الحرب السورية ضمن «التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش»، برز دور الموقع الجغرافي الأردني الذي اتخذت منه الولايات المتحدة موقعاً للتقدم نحو مناطق سوريّة أبرزها التنف، المحاذية للحدود الأردنية–العراقية، حيث بنت كبرى القواعد على الأراضي السورية، مستفيدة من طرق إمداد دائمة عبر الأردن ومرتبطة مباشرة بشبكة قواعد حدودية.
اللافت أن وجود هذه القواعد كان بعيداً عن الإعلام، خاصة مع نفي عمّان أي وجود عسكري أميركي على الأراضي الأردنية، لكن مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة 24 آخرين في كانون الثاني/يناير من العام الحالي إثر استهداف قاعدة تسمى «البرج 22» محاذية للتنف من الجهة الأردنية، كشف عن انتشار أميركي ضمن نقاط حدودية عددها 23 برجاً يتمركز فيها قرابة 3000 جندي.
خطوة إلى الأمام... خطوة إلى الوراء
في 2015، وبعد التدخل الروسي في الحرب السورية الذي قلب موازين القوى على الأرض، وقعت الفصائل المعارضة المنتشرة في درعا اتفاقية مصالحة استعادت عبرها دمشق السيطرة على «نصيب» الذي عاد إلى العمل في 2018، لتعاود حركة التبادل التجاري بين البلدين النمو تدريجاً، غير أنه صب في مصلحة الأردن الذي كانت صادراته أكبر من السورية بنحو 23 ضعفاً في 2022.
تزامنت استعادة العلاقات السورية–الأردنية مع ارتفاع مستوى الضغوط الاقتصادية على عمّان التي شكت مراراً من عبء اللاجئين السوريين (قدر عددهم في 2022 بنحو 1.3 مليون، نصفهم تقريباً مسجل لدى مفوضية اللاجئين)، فصار الأردن يحاول جاهداً فتح الباب أمام عودتهم إلى وطنهم، خصوصاً بعد التخفيض المستمر في الدعم الأممي الذي وصل إلى أدنى مستوى له بسبب نقص التمويل.
في 2021، وفي سياق الجهود الأردنية فتح الباب أمام عودة اللاجئين، وجراء «حالة الاستعصاء في الحرب السورية» كما وصفها عبد الله الثاني، قدم الرجل مبادرة إلى الولايات المتحدة وروسيا أطلق عليها إعلامياً «اللاورقة»، ودعت إلى حراك انفتاحي على دمشق مقابل خطوات محددة من الأخيرة، وفق مبدأ «خطوة مقابل خطوة»، لتشكل هذه المبادرة واحدة من ركائز الانفتاح العربي.
الانفتاح المذكور دخل فعلياً حيز التنفيذ بعد اجتماع على مستوى وزراء خارجية السعودية ومصر والأردن والعراق وسوريا استضافته العاصمة الأردنية في 5/2023، وأُطلقت خلاله «المبادرة العربية لحل الأزمة السورية»، لتستعيد دمشق بعده مقعدها في الجامعة العربية، وتبدأ مرحلة جديدة انتهت معها تقريباً القطيعة العربية، باستثناء قطر التي لا تزال تعلن معارضتها العلنية.
في 2021، تواصل الأسد وعبد الله لأول مرة منذ 2011. كما زار وزير الدفاع السوري، العماد علي أيوب، عمّان، والتقى رئيس هيئة الأركان المشتركة بالجيش الأردني، اللواء الركن يوسف الحنيطي، وناقشا «أمن الحدود وسبل القضاء على عصابات التهريب». وفي 2/2023، استقبل الرئيس السوري رئيس الوزراء الأردني، أيمن الصفدي، وتبعتها زيارة أخرى في تموز/يوليو من العام ذاته، إذ تناول اللقاء مسألة عودة اللاجئين وسبل الحد من تهريب المخدرات.
الهاجس الإيراني
إلى جانب عودة اللاجئين والتصدي للتهريب، يبدو «الحد من الوجود الإيراني» من أبرز هواجس الملك الأردني الذي أدرج هذه النقطة بوضوح في مبادرته «اللاورقة»، كما عبّر عن مخاوفه من أي انسحاب روسي من شأنه فتح المجال أمام تمدد إيراني قرب الحدود، قبل أن تشهد التصريحات الأردنية ارتفاعاً متواصلاً في النبرة، وصلت إلى حد تشكيك عبد الله في مدى سيطرة الأسد. إذ قال خلال مشاركته في قمة الشرق الأوسط العالمية في نيويورك في 9/2023، خلال حديثه عن شبكات التهريب النشطة قرب الحدود: «أعتقد أن بشار لا يريد أن يحدث ذلك، ولا يريد صراعاً مع الأردن، لكن لا أعرف مدى سيطرته»، محملاً «إيران وعناصر في الحكومة» المسؤولية.
الانتقادات الأردنية المتواصلة قوبلت بصمت سوري استمرّ حتى بعد شن الطائرات الأردنية غارات داخل الأراضي السورية استهدفت مواقع في درعا، وأخرى في السويداء، في سياق «محاربة شبكات تهريب المخدرات»، وتسببت هجمات السويداء في مقتل 10 مدنيين جلهم من النساء والأطفال.
الأمر نفسه دفع حركة «رجال الكرامة» (فصيل ينشط في السويداء) إلى إعلان الاستعداد للتعاون مع عمّان في مكافحة شبكات التهريب، قبل أن تنتقد دمشق الغارات الأردنية وتعبّر عبر بيان للخارجية السورية عن «أسفها الشديد جراء الضربات الجوية التي وجهها سلاح الجو الأردني»، وتعلن أنها تحاول «احتواءها حرصاً على استمرار استعادة العلاقة الأخوية»، مذكرة بأنها (سوريا) «عانت منذ 2011 من تدفق عشرات آلاف الإرهابيين، وتمرير كميات هائلة من الأسلحة انطلاقاً من دول جوار ومنها الأردن».
وقتذاك، ردت الخارجية الأردنية برفضها «أي إيحاءات بأن الحدود الأردنية كانت يوماً مصدراً لتهديد أمن سوريا أو معبراً للإرهابيين»، مع تحميلها دمشق مسؤولية «عدم اتخاذ إجراءات حقيقية لتحييد خطر التهريب».
هل يظل الحبل متأرجحاً؟
أخيراً، كُسرت حالة الرتابة العلنيّة في العلاقات بين دمشق وعمّان، فزار وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي دمشق في 20 تشرين الأول/أكتوبر الحالي بعد نحو 15 شهراً من زيارته السابقة، والتقى الأسد. سرت تكهنات وأقاويل عديدة حول الملفات التي وُضعت على الطاولة، ولم تخرج التصريحات والبيانات الرسميّة عن الكليشيهات المعهودة.
غير أن المنطق يُحتم أن ملف الحرب الإسرائيلية على غزة، ولبنان، كان حاضراً بكل تأكيد بين الجارين اللذين اعتادا حالة الاضطراب القائمة، وتأقلما معها لتصبح سمة تاريخية لهذه العلاقات، فلا هما حليفان، ولا جاران متوائمان تحكمهما علاقة واضحة، ولا هما عدوّان، بل بلدان متجاروان تسير العلاقة بينهما على حبل متأرجح.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0