وضاح ذ. الأشقري
لم يكن أنس، تلميذ الصف السادس في إحدى المدارس العامة بريف إدلب، يدرك ما ستؤول إليه الأمور بعد وضعه أول قدم على طريق الهروب من المدرسة، فقد يئست أسرته من هروبه المتكرر فقررت منعه من الذهاب إلى المدرسة، وغدا ضمن 69% من أطفال شمال غربي سوريا المتسربين دراسيّاً، وفق إحصائية أممية.
تقول والدة أنس إنها كانت ترغب مواصلة ابنها تعليمه، لكنها سئمت من هروبه الذي تحول إلى فعل شبه يومي، وتوضح أن «الطفل لا يجيد القراءة والكتابة بالشكل الأمثل، لذلك فإنه كان على وشك الرسوب في الصف السادس بشكل مؤكد».
في منتصف العام الحالي كشف المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا (أوتشا) أن أكثر من مليون طفل وطفلة لا يذهبون إلى المدارس في مناطق شمال غربي سوريا، وذلك بزيادة قدرها 200 ألف طفل عن المرحلة التي سبقت الزلازل في 6 شباط/فبراير 2023. وسجلت محافظة إدلب أعلى معدل للأطفال خارج المدرسة من بين جميع المحافظات السورية في العام 2024، إذ لا يحصل نحو 69 في المئة من الأطفال فيها على حقهم الطبيعي في التعليم، و«كلما طال أمد بقاء الأطفال خارج المدرسة، قلّت احتمالات عودتهم إليها».
مقاعد مضرجة بالدماء
لا يمكن قصر أسباب ظاهرة التسرب الدراسي على انعدام رغبة الطفل أو الأهل مواصلة التحصيل العلمي، فهناك أسباب خارجة عن الإرادة، وعلى رأسها تعرض عدد كبير من المدارس للقصف من قبل القوات العسكرية التي تتبع دمشق وحلفاءها، ما ينعكس سلباً على أداء المدارس المستهدفة ويؤدي إلى خروج معظمها من الخدمة في المناطق القريبة من خطوط التماس.
هجر الطفل توفيق المدرسة لأنّ «مشاهد الدم على مقاعدها لا تنسى»، وصار يعمل في مهنة تصليح الدراجات النارية
فور انتهاء الدوام المدرسي في أحد أيام شهر أيلول الماضي، تعرضت مدرسة توفيق، وهو تلميذ في الصف الثامن، لقصف صاروخي طاول مدينة سرمين في ريف إدلب، وخلف القصف ضحايا من التلاميذ والكادر التدريسي.
كان توفيق حاضراً حينها، ومنذ ذلك الوقت اعتاد تكرار القول إن «مشاهد الدم على المقاعد الدراسية لا تنسى»، ويؤكد بأسى بالغ أنه بسبب ذلك اليوم هجر مدرسته ملتحقاً بمهنة تصليح الدراجات النارية، فـ«المدرسة تشبه الموت» كما يقول.
يؤكد تقرير صدر في بداية العام الحالي عن فريق «منسقو استجابة سوريا» وهو مركز إحصائي يعمل في الشمال السوري، تقرير أن عدد المدارس المدمرة التي خرجت عن الخدمة في المنطقة تجاوز 870 مدرسة، من بينها 227 منشأة تعليمية خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
الحاجة أم البلاء
وإذا كان القصف يشكل عاملاً من عوامل التسرب الدراسي فإن الجانب الاقتصادي هو الحامل الرئيس لهذه الظاهرة، سواء حاجة الأهل - لا سيما الأسر التي فقدت رب العائلة - إلى معيل، أو بسبب انعدام القدرة على تحمل أعباء التعليم ولوازم المدرسة خصوصاً بالنسبة للأسر الكبيرة.
فقدت أم سمير زوجها خلال الحرب وغدت مع ستة أطفال دون معيل. تشرح لـ«صوت سوري» أنها اضطرت إلى إيقاف ثلاثة من أولادها عن الدراسة وإلحاقهم بسوق العمل. «ندفع إيجار المسكن من راتب أحد الأولاد، وبقية المصاريف يتكفل بها راتبا الولدين الآخرين»، تقول.
وبرغم تواصلها مع عديد المنظمات الإنسانية لإعالة أسرتها، لم تحصل أم سمير سوى على منحة من منظمة «جول» لكنها توقفت منذ أكثر من سنة، فضلاً عن كون مبلغ المنحة الشهرية غير كاف، بحسب ما تؤكد.
أعمال الكبار.. للصغار
أمام تفاقم حالات التسرب الدراسي، وشيوع عمالة الأطفال، بات مألوفاً مشهد الطفل الصغير وهو يمارس أعمالاً للكبار مثل المهن الحرفية وأعمال البناء في الشمال السوري، فيما تتجاهل السلطات هذه الانتهاكات لحقوق الأطفال الذين يعيشون ظروف عمل يشوبها الاستغلال والمخاطر والتعب الجسدي والنفسي.
في منتصف العام 2023، كشف فريق «منسقو استجابة سوريا» أن 85% من الأطفال المتسربين من المدرسة يعملون في مهن مختلفة بينها مهن خطرة، وعزا الفريق الأسباب إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجه الأهالي في المنطقة، مشيراً إلى «غياب أي نوع من التشريعات من السلطات المحلية لمنع دخول الأطفال في سوق العمل وغياب الحد الأدنى للعمر القانوني».
ومن أصل تسع حالات تسرب دراسي تتبّعها «صوت سوري» في المنطقة، تبيّن أن سبع حالات أُلحقت بمهن خطرة أو مُجهدة جسدياً مثل: الحدادة وتصليح السيارات والبناء والإكساء، وتراوح أعمار الأطفال بين 10 سنوات 15 سنة، بينما تؤشر كل هذه الأرقام والمعلومات على مستقبل مجهول للنسبة الأكبر من أطفال المنطقة التي تعاني من تفشي الجهل والأمية، بمحاذاة البطالة والفقر المدقع وسيطرة قوىً تتبنى الأيديولوجيا «الجهاديّة».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0