× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

..وفي اليوم السابع أصبحتُ ذكياً

حكاياتنا - خبز 15-06-2020

هذه الحكاية رواها لي أبو أحمد، وهو سائق سيارة أجرة شاءت الصدف أن يكون رفيقي في رحلة طويلة قليلاً في شوارع دمشق، فقص عليّ بعض الحكايات، وهذه واحدة منها

الصورة: (Andy Fox - فليكر)

تعريفات ضرورية قبل قراءة المقال
- البنزين المدعوم: هو البنزين الذي يمكن للمواطن السوري «الصالح» الذي يعيش في مناطق سيطرة دمشق، أن يحصل عليه بسعر تدعمه الحكومة، وهو اليوم 250 ليرة لليتر الواحد. أما سعر البنزين غير المدعوم، فهو 450 ليرة لليتر. وفق تعديلات صدرت قبل فترة، لم يعد يحق للمواطن الذي يمتلك أكثر من سيارة، أو الذي تزيد سعة محرك سيارته عن 2000 سي سي أن يحظى بالبنزين المدعوم. يمكننا القول إن الحكومة تراه «برجوازيّاً»، وليس كادحاً (ولا صالحاً؟) ولا يستحق الدعم. الأمر نفسه ينطبق على من استُخرج باسمه أكثر من بطاقة، حتى ولو كانت بطاقة لسيارة ابنه المعوّق مثلاً. (المحرّرة: كن ذكيّاً، ولا تتساءل: لماذا سمحوا له بتسجيل أكثر من بطاقة باسمه في الأصل؟)

- البطاقة الذكية: بطاقة صفراء اللون، على كل من يمتلك سيارة أن يحصل عليها كي يتمكن من شراء البنزين المدعوم، وإلا فلا طريق أمامه سوى «الحر»، أي البنزين غير المدعوم.  
هناك بطاقة أخرى (لا تقلُّ ذكاء) خاصة بالعائلة، يمكن من خلالها الحصول على المازوت والغاز وبعض المواد الغذائية مثل الرز والسكر.

- شركة تكامل: هي شركة خاصة حصلت على مناقصة لتركيب وتشغيل نظام البطاقة الذكية، بالتعاون مع وزارة النفط ومحطات الوقود. يُقال إن «لبعض رفيعي الشأن، حصة الأسد» في هذه الشركة، التي يُقال أيضاً إنها تحصل على مبلغ مقطوع عن كل عملية تعبئة للبنزين (والمازوت أيضاً). في شهر نيسان أعلنت الحكومة إيقاف شركة تكامل عن العمل، من دون توضيح الأسباب.
- شركة محروقات: هي شركة تابعة لوزارة النفط السورية، ومسؤولة عن تخزين وتوزيع المواد البترولية. تولت «محروقات» المسؤولية عن مشروع البطاقة الذكية بعد «كف يد» شركة تكامل.

تمهيد، ضروري أيضاً
هذه الحكاية ليست حكايتي. أنا لا أمتلك سيارة، وهذه نصف مصيبة، المصيبة الكاملة أن لم تتح لي فرصة امتلاك بطاقة ذكية. رواها لي أبو أحمد، وهو سائق سيارة أجرة شاءت الصدف أن يكون رفيقي في رحلة طويلة قليلاً في شوارع دمشق، فقص عليّ بعض الحكايات، وهذه واحدة منها. 
لم يدّع الرجل أن حكايته مسلية، ولا أنا أدعي ذلك أيضاً. كنا فقط نريد تمضية الوقت، خاصة أنّ الحر (بفتح الحاء) كان شديداً في ظهيرة ذلك اليوم، ولا مكيف في تلك السيارة، كما في معظم سيارات الأجرة هنا. 

يقول أبو أحمد: 
أعمل سائقاً على هذه السيارة منذ أكثر من عشرين عاماً. لم أمتلك يوماً غيرها، وقضينا كل هذه السنوات معاً على الحلوة والمرة.
لا أريد أن أتحدث عما نعانيه بشكل يومي من صعوبات كبيرة في تأمين لقمة عيشنا، أنا وعائلتي المكونة من ستة أشخاص، فهي أحاديث باتت مكررة ومملة بشكل كبير. حتى أنا ما عدت أرغب بسماعها. أريد فقط أن أحكي عن «الذل اللي عم يذلونا ياه كرمال البطاقة الذكية».

سيارة العم أبو أحمد ليست فوق 2000 سي سي، ولا يمتلك باسمه سوى سيارة واحدة، وبالتالي لا يفترض أن يحرم من مخصصات البنزين المدعوم. لكنه كما يقول استخرج أكثر من بطاقة ذكية، له ولابنه ولأخيه، وبالتالي توقفت البطاقات الثلاث، وبات عليهم الآن أن يتقدموا جميعاً بطلبات لإعادة تفعيل البطاقات، كي يتمكنوا من شراء البنزين بالسعر المدعوم. (راجع التعريف الأول، وتذكر أننا قلنا: لا تتساءل).

Embed from Getty Images

توقفت البطاقة الذكية الخاصة بأبي أحمد عن العمل فجأة، منذ حوالى شهر. في محطة الوقود، أخبروه بضرورة مراجعة الفرع. أقصد فرع شركة تكامل. 
«من وين طلعولنا فيها هي الشركة ما حدا بيعرف.. شلة حرامية..» يقول.
توجهت فوراً نحو مركز الشركة في المزة، لأجد ازدحاماً كبيراً، وكان الجميع هناك يتحدثون عن إقفال المركز أبوابه، وهروب الموظفين منه. 
- وهلأ وين نروح؟ شو نعمل بحالنا؟؟
- روحوا على وزارة النفط. 
- لك هلأ كنا هنيك، قال هن ما دخلهن. 
- لكان مين دخله؟ ستي ولا جدي؟؟
- الله يلعن تكامل، على وزارة النفط
(أثناء رواية هذه الأحاديث التي دارت بين الواقفين على باب مركز تكامل، ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه أبو أحمد، وكان عند كل جملة يغير صوته ليقلد صاحبها)
انطلقت إلى وزارة النفط، وكان الازدحام هناك أكبر، والموظفون على الباب يمنعون دخول المراجعين ويقولون: «نحنا ما دخلنا.. روحوا على مركز تكامل بالمزة». 
تكرر الأمر أياماً متتالية، رأيت وسمعت فيها كل أنواع الخناقات، والمسبّات، بين المراجعين والموظفين. «والله بخجل يا بنتي احكيلك شو سمعت وشو شفت. بس بتعرفي شو اللي بيزعل؟ إنو نحنا كلنا معترين. نحنا اللي جايين بدنا البطاقة الذكية، والموظفين اللي عم يقلعونا ويقولولنا ما دخلنا. كلنا معترين. والمعتر شكله ما بيعرف يتقاوى غير عالمعتر متله أو أكتر منه».
(بعد أيام، صدر قرار بإعادة افتتاح مراكز البطاقة الذكية التي كانت تحت إدارة شركة تكامل، لكن بإشراف شركة محروقات، وبدأت رحلة أبو أحمد في هذه المراكز)

 اخترت المركز الأقرب إلى منزلي، وتوجهت إليه منذ حوالى أسبوعين، في الساعة الثامنة صباحاً. 
كان المشهد مبشراً، فالازدحام معقول، ولا مشاحنات بين المراجعين والموظفين. أحد المراجعين يتولى مهمة تسجيل الأسماء بأرقام متسلسلة، وكان لي حظ الحصول على الرقم 61. جيد. لا بأس.

«بتعرفي شو مخوفني؟ عم يقولوا هلأ رح يبلش شي اسمه قانون قيصر، وترجع مخصصات البنزين تنقص. معقول بكرا يلغوا البطاقة الذكية ويعملولنا شي شغلة تانية، ونرجع  نوقف على الدور؟»

في التاسعة والنصف فتح المركز أبوابه، وقام أحد الموظفين بتوزيع أوراق صغيرة تحمل أرقاماً متسلسلة حسب الأسماء المسجلة على الورقة. وصل التوزيع حتى الرقم 60 وتوقف. 
«طيب وبقية الأرقام؟» تساءل كل من لم يحصل على ورقة. 
«ارجعوا بكرا. اليوم مافي أكتر من 60 رقم». 
كل هذا كان خارج المركز. حاولت الدخول لأروي فضولي، فرأيت مشهداً مشابهاً لما رأيته عند وزارة النفط. لا شيء سوى الذل. 
قررت العودة في اليوم التالي. سجلنا الأسماء والأرقام ولم أحصل أيضاً على دور. 
الموظف أخبرنا بضرورة أن نأتي من السادسة صباحاً، كي نسجل أسماءنا بأنفسنا، ثم يأتي هو ويعطينا الأرقام السحرية في الساعة التاسعة. 
«وليش ما تجي حضرتك متلك متلنا من الستة الصبح؟ أو نجي كلنا عالساعة تسعة؟»، سأله أحد المراجعين. «وأنا شو دخلني؟ إنتو بدكم البطاقات مو أنا»، أجاب.
في اليوم الثالث كانت الشبكة معطلة. 
في اليوم الرابع قرر الموظف بعد مشاجرة كبيرة مع المراجعين الواقفين منذ السادسة صباحاً، تمزيق ورقة الأسماء والتوقف عن توزيع الأرقام. كان بيننا رجل كبير في السن، شعرت وكأنه سيقع مغشياً عليه من شدة الغضب. 
نظرات الذل كانت في عيون الجميع، والكل كان يريد فقط أن يصرخ ويطرح سؤالاً واحداً: «ليش هيك عم تعملوا فينا؟؟»
في اليومين الخامس والسادس لم أذهب، حفاظاً على أعصابي.. استراحة. 
في اليوم السابع، ضبطت المنبه على الساعة الخامسة والنصف، وكنت أمام باب المركز في الساعة السادسة. لم أجد أحداً. أخرجت منتصراً ورقة وقلماً من جيبي، وسجلت اسمي مع الرقم 1. 
خلال الساعات الثلاث التالية، تسليت بتسجيل أسماء المراجعين، وعندما فُتح الباب في الساعة التاسعة، كنت الأول، ربما للمرة الأولى في حياتي، ضمن دائرة حكومية.
«بس بتعرفي يا بنتي شو مخوفني؟ عم يقولوا هلأ رح يبلش شي اسمه قانون قيصر، وقال بدها ترجع مخصصات البنزين تنقص. يعني معقول كل هالمرمطة، وبكرا يلغوا البطاقة الذكية ويعملولنا شي شغلة تانية، ونرجع بدنا نوقف على الدور؟؟».


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها