نور السّيّد - كاتبة ضيفة
الصورة: (جلسة مناقشة للرواية في الجمعية اللبنانية للقرّاء - صفحة الروائي على فايسبوك)
تبدو ««ميكروفون كاتم صوت» للكاتب اللبناني محمد طَرزي رواية مصمّمة لتستفز الحواس بامتياز. تعمّد الكاتب ذلك لنستشعر الدرك الذي وصلت إليه البلاد، لا سيّما منذ العام 2018، وحتى انفجار مرفأ بيروت 2020، حتى لنكاد نشتمّ رائحة القمامة في الشوارع، ونسمع هتاف الثوار في وجه الفساد يتردد بين السطور، كذلك لون الوجوه الكالحة.
نَفَس الماركسية حضرَ لينحاز للمهمّشين، يكدحون في سبيل العيش، ويتدربون على نطق «لا» بصوتٍ مسموع في وجه الطغيان.
الحياة داخل مقبرة
اختار طَرزي (42 عاماً) مقبرة لتدور ضمنها أحداث روايته الحائزة جائزة كتارا لهذا العام؛ مقبرة تبتلع المدينة وتتّسع مع كل مصاب، حتى إن سلطان/العامل فيها يأمل أن يخرج منها حيّاً، في إشارة رمزية إلى أن الذلّ أطبق على أعناق أحياء البلاد وأمواتها.
ترصدت الرواية التي وصلت القائمة الطويلة لجائزة «الشيخ زايد للكتاب» 2023 علاقات إنسانية جمعت إحداها بين النديمين حسن وسلطان، فكان الراوي العليم ثالثهما يخبرنا بمكنوناتهما. كما آلمتنا رسائل ميسم التي شرحت معاناة من ركبوا البحر: «مشينا خلف المهاجرين، مطرقين مثل اليتامى، مثل شحاذي الأوطان، على ظهورنا حقائب صغيرة متخمة بالملابس والأمل».
اقترب طرزي من التابوهات بذكاء وحيطة، فكانت للسياسة الفاسدة حصّة الأسد، كما رصد علاقتها الشبكية مع الجنس من خلال «مطعم ماما ريتا»، الذي سرعان ما يتحول إلى ماخور صغير ليلاً. مع ذلك لم يتوانَ صاحب ثلاثية «حكاية الحلم الأفريقي» عن إظهار الجانب الإنساني لبائعات الهوى، هنّ في نهاية المطاف جرم يدور ضمن مدار الظلم، أنهكه السعي للانعتاق. كذلك حرص على الإشارة إلى التطرف الديني المحقون كالسّم في أوردة شباب باتوا منصاعين للأوامر.
هكذا أرادها طرزي رواية عن الواقع؛ بلا تشويق كامل، ولا حزن تام، ولا فرح دائم، سيل فساد هنا، تقابله لطخة أمل هناك، هوّة تتسع بين اليمين واليسار، واقتتال أهلي طائفي صامت يسمعه من يمر به: «صحيح أن الحناجر ظلت تردّد: "يسقط يسقط حكم الأزعر"، لكن الأزعر لم يكن هو ذاته في كل النفوس».
رمزيّات وسط الواقع
على امتداد الرواية ظلت الرمزيات حاضرة، بدءاً بالعنوان، ووصولاً إلى الجزء الأخير. فالميكروفون كاتم الصوت يغتال الأصوات بصوته العالي، بل ويغتر بسلطته المفروضة المسموعة. مكبرات صوت في كل مكان تهتف باسم الزعيم، بالانتصارات المزيفة. حتى مكبر صوت سيارة الموتى تحوّل في يد سلطان إلى أداة سلطة باح من خلالها بما يعتمل في وجدانه: «مدينتي مقبرة كبيرة يحكمها مذياعٌ للموت، ما أكثر مكبراتها، وما أضعف فيها الصوت».
نَفَس الماركسية حضرَ لينحاز للمهمّشين يكدحون في سبيل العيش ويتدربون على نطق «لا» بصوتٍ مسموع في وجه الطغيان
بدا لافتاً أن الكاتب طوّع الطبيعة لخدمة صوره، فصار الجماد كائناً حيّاً يتفاعل مع المشهد: قمرٌ يتوارى خلف الغيم عندما يتهرّب البطل من سؤال ما، بحرٌ يزفر أمواجه كما يزفر الأبطال من رئاتهم هموم وضنك العيش. كذلك المقبرة تشعر وتخاف وتبرد: «انخفضت درجة الحرارة، والتصقت القبور بعضها ببعض».
حين تطرق إلى كارثة كورونا، وصف بدقة تمكنها من بلدٍ خَرِب نخره الفساد حتى انهار مع وصول كوفيد 19: «أقفلت البنوك أبوابها بعدما تبين أن النظام السياسي بدّد أموال المودعين، على مدار عقد من الزمن. تعطّل كل شيء، خلت الصيدليات من الأدوية، والمستشفيات من المعدّات الطبية. قنّنت المحطات الوقود، فاصطفّت السيارات على طول الطريق في ما يُعرف بطابور الذلّ، كثر المتسولون، وارتفع معدّل الجريمة، صار الناس يقتلون لأتفه الأسباب بينما سجّلت أعلى نسب انتحار في تاريخ البلد».
قالب لغوي مرن
كانت اللغة سهلة بسيطة تقارب مفرداتها في بعض الفقرات اللهجة المحكية الخاصة بأهل الجنوب، تنقل رسائل «واتساب» بين البطلين بلغة سعيد عقل، وتتضمن كلمات إنكليزية على لسان بطلتها. وبذلك يكون الكاتب قد راعى التفاوت الثقافي في اللغة محاكياً الواقع اللبناني بنسيجه وثقافاته المتعددة. هي ذاتها اللغة تسمو على لسان الراوي إلى مفردات فصيحة لتنسج تعابير رشيقة.
حافظَ طَرزي على وحدة الشكل والمضمون في روايته التي وصلت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ (تُعلن الرواية الفائزة في 11 كانون الأول/ديسمبر المقبل)، تخللت الكوميديا السوداء بعض المواقف، فكان التهكم على لسان الراوي يشي بالمضحك المبكي. بأسلوب الاسترجاع المزجي عاد بنا إلى أحداث حصلت مع شخوصه قبل شروعه في كتابة قصصهم، لا سيما ما حصل مع حسن في المهجر. وأحداث ضمن الرواية حين استذكر سلطان مراراً لحظات صعوده درج الخان مع وداد. كما حسم بأسلوب استباقي مصير بعض الشخوص كابنة صديقه قاسم التي ستنجو من مخاطر الهجرة وتعيش طويلاً.
التفاصيل كانت بطلة السرد، قد يخيّل للقارئ أنه أمام وصف عبثي من شأنه أن يطيل الرواية فحسب، ثم وبخفّة بهلوانية تُلقى تلك التفاصيل في حجره ليوقن بأنها ما كانت إلا تلميحات لتُثخن العقدة وتُربك المفاجأة.
تفاعلت الشخصيات نفسها من خلال الحوار بمفرداتها وإيحاءات جسدها وحتى لحظات صمتها وتأملها، فامتثلت لكاتبها حين ألبسها الاسم والمهنة، سارت على السطور وهي تعرف طريقها، وصلنا معها الجزء الأخير الذي يمكن اعتباره مأخذاً وحيداً، فالأحداث حُسمتْ، لتلبي نداء الكاتب الذي فتح ميكروفونه الخاص على الملأ احتجاجاً على التشبث بمجدٍ ولّى.
«ميكروفون كاتم صوت» قراءة لواقع متهالك اعتبرها البعض نبوءات لما يحصل اليوم في بيروت من دمار فعلي على يد الكيان. مدينة مدمّرة دفنتْ موتاها، وماضيها، وحاضرها في حفرة كبيرة.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0