حُسن سلطان
الصورة: (من الاحتفال بعيد القديسة آنّا في اليعقوبية العام 2022 / صحيفة الشرق الأوسط)
قبل سنوات تغيرت أحوال بلدة عبريتا الواقعة شمالي مدينة كفر تخاريم، وشيئاً فشيئاً تبدلت تركيبة سكان تلك البلدة الصغيرة التي كان أهلها من الموحدين الدروز، وصار كثير من منازلها ملكاً لعناصر أجانب ينتمون إلى «هيئة تحرير الشام»، أو فصائل تتحالف معها.
تجاوزت أسما وزوجها السبعين من عمريهما. رفضا مغادرة البلدة مع أبنائهما قبل تسعة أعوام، مع بدء انسحاب قوات النظام (السابق) من المنطقة وآثرا البقاء رغم رحيل «نحو سبعين في المئة من الأهالي» تقول، وتضيف: «لم يبق في البلدة إلا كبار السن، الوضع الأمني سيئ ومصيرنا مجهول وهو ما دفع بأبنائي لاصطحاب عائلاتهم والرحيل خوفاً».
تعمل أسما في نسج الحصير من القش وتصنيع القفف والأواني والقبعات من القصب، علاوة على عملها مع زوجها في تحضير عصير الرمان وتكسير الجوز واللوز تمهيدا لنقلها للأسواق وبيعها.
تؤكد السيدة أن أحداً لم يتعرّض لها وزوجها بأي سوء، لكن «الهيئة صادرت معظم ممتلكات أبنائي بما فيها منازلهم وسلمتها لعناصر يتبعون لها غالبيتهم من جنسيات مختلفة، بذريعة أن أبنائي كانوا يقاتلون مع النظام».
على مقربة من بلدة عبريتا تع بلدة قلب لوزة، وهي الأخرى كان مأهولة بعائلات من الموحدين الدروز، أما اليوم فسكانها مزيج من أبنائها، وعائلات نازحو من مدن أخرى.
يسترجع إياد زحيل، وهو خمسيني من أبناء قلب لوزة، ذكرياته. يقول: «مع دخول الفصائل إلى البلدة كان الوضع مخيفاً، لأن مصير من تبقى فيها كان مجهولاً وكثير من عناصر الفصائل العسكرية غير منضبطين، زاد الوضع سوءاً عقب مقتل أكثر من عشرين فرداً من أبناء البلدة لأن أحد الأهالي رفض تسليم منزله لقيادي أجنبي من هيئة تحرير الشام» وهو ما أحدث نوع من الريبة لدى سكان البلدة بشكل خاص ولمن تبقى من دروز في ادلب بشكل عام.
يضيف زحيل: «بدأ الوضع يستقر بمرور الوقت مع انضباط الفصائل العسكرية وتوجيه تطمينات إلى أهالي البلدة بعد اجتماع ضم عدداً من وجهاء البلدة مع بعض القيادات».
تُرجمت تلك «التطمينات» بمجموعة إجراءات فرضتها «تحرير الشام» مثل إفراغ معظم منازل البلدة التي سكنها مهاجرون متشددون، إضافة الى كف يد بعض التنظيمات المتطرفة عن التدخل في تلك المنطقة وفرض إجراءات حماية مشددة عليها.
تنوّع أصيل
شأنها شأن بقية المحافظات السورية تضم محافظة إدلب خليطاً متنوّعاً من الطوائف والأديان، لكن مجريات الحرب أدّت إلى تغيرات ملحوظة على هذا الصعيد، فخلت المحافظة من أبناء الطائفة الشيعية عقب «اتفاق المدن الأربع» الشهير الذي أفضى في 2017 إلى إخلاء بلدتي كفريا والفوعة من سكانهما، وقابلته إجراءات مماثلة في مضايا والزبداني بريف دمشق. كما شهدت المحافظة حركة نزوح كبيرة لأبنائها المسيحيين والموحدين الدروز، لا سيما مع دخول المنطقة تحت سيطرة مجموعات مسلّحة عديدة، وما تخللها من انتهاكات وصلت في 2015 حدوداً دموية في مناطق جبل السماق التي تضم قرى عديدة كان سكانها من الموحدين الدروز.
وفق «مدير شؤون الطوائف في حكومة الإنقاذ» توجد في مناطق شمال غربي سوريا «16 قرية درزية يتوزع معظمها في منطقة جبل السماق، من بينها قرى وبلدات عبريتا وقلب لوزة وبنابل وجدعين وكفتين وكفر نبي وغيرها من البلدات، ويبلغ عدد الدروز في تلك المناطق 11115 بعد أن كان تعدادهم قبل 2011 نحو 30 ألف نسمة».
المسيحيون من آلاف إلى مئات
وفق «مديرية شؤون الطوائف» هناك ست قرى وبلدات مسيحية في الشمال السوري هي: اليعقوبية، الجديدة، القنية، الغسانية، وحلوز، فضلاً عن بعض العائلات في إدلب المدينة.
وقع كثير من مسيحيي المنطقة ضحايا انتهاكات ومضايقات مع بدء سيطرة الفصائل العسكرية، ما دفع النسبة الأكبر منهم للنزوح داخليّاً، أو إيجاد طرق نحو خارج البلاد، اليوم يبلغ عدد المسيحيين في شمال غربي سوريا 569 شخصاً، بعد أن كانت أعدادهم تقدر بنحو عشرة آلاف في العام 2010.
في الأعوام الأربعة الماضية طرأ تغير ملحوظ في سياسة «تحرير الشام» المتعلقة بأتباع الديانات والطوائف المختلفة، وهو أمرٌ عزاه مراقبون إلى محاولات «الهيئة» رفع اسمها من لوائح الإرهاب
رفض الشاب إلياس عيسى الخروج من بلدة اليعقوبية الواقعة في ريف جسر الشغور، وقرر البقاء ومواجهة «المكتوب» حسب تعبيره، رغم نزوح غالبية سكان البلدة.
يشرح الشاب أن نزوح معظم أهالي البلدة يرتبط بالخشية من «انتقام الفصائل بسبب موقف المسيحيين الذي تراه الفصائل حيادياً، علاوة على مخاوف منعهم ممارسة شعائرهم الدينية وإجبارهم على اعتناق الإسلام أو دفع الجزية».
يقول عيسى: «كان الوضع في البداية مقلقاً بعد دخول المقاتلين الى البلدة وسيطرتهم على بعض المنازل والممتلكات التي تركها أصحابها، إلا أن الأمر بدأ يأخذ منحى آخر بمرور الوقت، فأعيدت معظم الممتلكات إلى أصحابها أو الوكلاء عنهم، وسُحبت العناصر المسلحة من البلدة، كما أن الأعوام الماضية شهدت حلحلة تدريجية لمسألة ممارسة الشعائر الدينية والاحتفال بالمناسبات والأعياد دون مضايقات».
«الهيئة» تغير نهجها
في الأعوام الأربعة الماضية طرأ تغير ملحوظ في سياسة «هيئة تحرير الشام» في ما يتعلق بأتباع الديانات والطوائف المختلفة، وهو أمرٌ عزاه المراقبون إلى محاولات «الهيئة» رفع اسمها من لوائح الإرهاب، بينما يمكن اليوم تخمين أسباب أبعد تتصل بخطط الهيئة للسيطرة على كامل سوريا كما حدث في الأسبوعين الأخيرين.
واشتملت التطورات على سحب التنظيمات العسكرية من داخل البلدات، علاوة على رد الممتلكات العقارية لأصحابها أو وكلائهم، كما خففت من قبضتها الأمنية وتدخلها في ممارسة الشعائر الدينية وقدمت تطمينات لمن يرغب بالعودة. وكان أبرز إجراء في هذا السياق إعادة افتتاح كنيسة القديسة آنا، قبل أقل من عامين في قرية اليعقوبية بريف إدلب الغربي، لتشهد إحياء لـ«عيد القديسة آنّا» بمشاركة أهالٍ من قرى اليعقوبية والجديدة والقنية وسط حراسة أمنية مشددة، بعد انقطاع دام 11 عاماً. افتتاح الكنيسة جاء بعد نحو شهر، من لقاء زعيم الهيئة بعدد من مسيحيي إدلب، في قرى القنية، واليعقوبية، والجديدة، بريف جسر الشغور.
أثناء العمل على هذا التحقيق (الذي أُعِد قبل شهور من بدء معركة حلب، وما تبعها من تطورات أفضت إلى سقوط النظام السابق) التقينا عدداً من سكان المنطقة، تكاملت أقوالهم لشرح التغيرات العديدة التي طاولت حياتهم، فمع دخول «تحرير الشام» وحلفائها من الفصائل إلى مدنهم وقراهم وقعت العديد من الانتهاكات، ثم راحت الأحوال تتغير.
شرحت ماريا، وهي سيدة أربعينية من إحدى بلدات ريف جسر الشغور أن «الوضع الأمني تحسن للأفضل بعد سحب معظم الفصائل من داخل البلدة وإعادة ممتلكات المسيحيين لأصحابها، وافتتاح كنيسة مريم العذراء التي ظلت مغلقة أعواماً طويلة، والسماح للمسيحيين بممارسة شعائرهم الدينية دون تدخل».
أوضحت السيدة أن بعض القيود ما زالت مفروضة لا سيما ما يتعلق باللباس، ووضع معايير وضوابط للاختلاط بين الجنسين، ثم قالت «نأمل تجاوز تلك الإجراءات ورفع تلك القيود عنا بشكل كامل».
ومن بين التغييرات اللافتة في سياسات «تحرير الشام» برزت في العامين الأخيرين إجراءات تخص بلدتي كفريا والفوعة، مع حرص «الهيئة» على خفض عدد المنازل التي يسكنها عناصرها بعد أن فرغت البلدتان من سكانهما، وقد فسر بعض المراقبين تلك الخطوة باحتمال كونها تمهيداً لمحاولات مستقبلية لإعادة من يرغب من أبناء البلدتين إلى السكن فيهما.
في تصريحات خاصة لـ«صوت سوري» قبل نحو شهرين قالت «مديرية شؤون الطوائف» التابعة لـ«حكومة الإنقاذ» في إدلب إن «الأقليات جزء مهم من النسيج الثوري الذي تعرض لانتهاكات قوات النظام، وتعمل إدارة المنطقة على إعادة بناء مجتمع تحطّم بشدة نتيجة الصراع والفوضى»، كما أن «الأقليات في المنطقة تعرضت أيضاً لأضرار خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية، من انتهاكات، واستيلاء غير قانوني على الممتلكات، ما خلف جراحاً ما زالت تُعالج حتى الآن».
أما من الناحية السياسية، فقالت تصريحات «المديرية» إن «جميع أفراد الأقليات يتمتعون بالحريات التي تكفلها لهم الشريعة الإسلامية، بما في ذلك ممارسة شعائرهم الدينية داخل مبانيهم الدينية، ويعاملون في الشأن العام كسائر شرائح المجتمع، وتزورهم وفود أجنبية من الدول الغربية، وحريتهم الشخصية محترمة، ولهم جميع الحقوق التي يتمتع بها أي شخص في المناطق المحررة».
---
- تنويه: يتنافى تقسيم السوريين والسوريات إلى «أقليات» و«أكثرية» مع سياسات «صوت سوري» التحريرية، التي تقوم على قاعدة أن المواطَنة هي المعيار الذي ينبغي أن يتساوى بموجبه جميع السوريين والسوريات، غير أن ضرورة توصيف الواقع الراهن فرضت علينا الخوض في هذه التفاصيل
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0