زياد قطرميز
الرسم: (راوي - كارتون موفمينت)
اعتاد قلمي المُواربة والتخفّي والقول المَخبوء، والآن هكذا «يا غافل إلك الله» عليه أن يستوعب هذا الكم الهائل من الشعور بالحُريّة مثلاً؟!
لا أستطيع الكتابة بهذا الوضوح، اصنعوا لي ديكتاتوراً ما، أكتب عنه بطريقة مستترة ويَضع الأصدقاء إعجاباتهم بطريقة مَخبوءة، آمنين على أرواحنا جميعاً. لقد حاولت، حقاً حاولت أن أكتب عن الوضع بشكل مباشر، أن أكتب عمّا أشعر به دونما مواربة، ولم أستطع.
أن أخوض حواراً سياسياُ اقتصادياً اجتماعياً، أيّاً تكن طبيعته، دون إخفاء أو تحايل أو دون تهكّم مَخبوء؟ هذا لا ينفع، وأعتقد أن أمثالي كُثر.
لقد بُنيت طبيعة حياتي على وجود «بعبع» عليّ أن أختبئ منه طوال الوقت، وذلك يتعلّق بكل شيء: طريقتي في انتقاء النكات وإلقائها، طريقتي في النظر إلى الوجوه التي عليّ أن أكتشف بفراسة ما إذا كانت وجوه مُخبرين أم وجوه مُعارضين أم وجوه حِياديّين! طريقتي في مَعرفة واستكشاف بواطن الرفاق والأصدقاء وبائعي البوالين و«الخضرجية» وغيرهم.
يتجاوز الأمر مَفهوم الخوف والتخفّي أو مفهوم العصا والظهر، المشنقة والرقبة، فعلى عُمق وثِقل وطول العلاقة بين الكاتب والنظام، اتخذت الكلمات والأساليب أبعاداً عاطفية وأيدلوجية أعمق بكثير من مُجرّد كونها أساليب التفافيّة، كنت مثلاً أخفي كلمة «نظام» بكلمة «بلاد» وعلى مرّ السنين صارت للفظة «بلاد» مكانة وحالة عاطفيّة وذاكرة أدبيّة أعمق بكثير من كلمة «نظام» التي تبدو فجّة في لا وعيي ولا أريد استخدامها، فما الحل؟
كُتلة هائلة من أدب السجون، عدد هائل من الأدباء تعلموا فنون المواربة كما يتعلم الصينيون فنون «الكونغ فو»، عليك اتقان الحركات وإلا متّ بتقرير قاتل في أي لحظة!
أيكون الحل إنشاء دكتاتور «فزاعة» نُسمّيه ديكتاتور الكتّاب؟ نكتب عنه وعن نظامه ورجالاته ومُعتقلاته، نشعر بالبطولة والمُخاطرة وكأنّنا من شخصيات «جيمس بوند» أو كما لو أننا نلعب «الروليت» الروسية بأقلامنا بدلاً من المسدّسات. للأدرينالين الناجم عن المُخاطرة بالكتابة تأثير يُشبه الأدرينالين الذي تُفرزه غدد متسلّقي الجبال ومُصارعي الثيران ولاعبي «البابجي». لكن إدمان أدرينالين الكتابة أخطر من إدمان أدرينالين المُقامرة، والتوقف عن اتباع أساليب التحايل على الرقابة أصعب من التوقف عن إدمان الكحول والتدخين.
فلنراجع الأدب السوري (المفيد) طوال نصف قرن: لم يذكر الماغوط اسم الرئيس أو حزب البعث بشكل مباشر رغم علمنا جميعاً أنه كان يقصدهما، ولم يفعل ذلك ممدوح عدوان ولا حتى في كتابه الشهير «حيونة الإنسان»، رغم أن كل كلمة في كُتبه تؤكد أنه يستقيها من واقعه السوري، لم يفعل ذلك أيضاً سعد الله ونوس، يمكننا انتقاء ما نشاء من الكُتّاب والكاتبات لنلاحظ أنهم لم يفعلوا (عدا من سافروا)، ولعلي أستثني اسماً عزيزاً على قلبي هو خالد خليفة.
لا بد أيضاً من الإشارة إلى مقال كتبه ممدوح عدوان في «جنون آخر» خصصه فقط للمزاودين عليه من المعارضة وهم يعيشون في الخارج، بينما هو لا يستطيع الكتابة من الداخل.
كُتلة هائلة من أدب السجون، عدد هائل من الأدباء الذين تعلموا فنون المواربة كما يتعلم الصينيون فنون «الكونغ فو»، وعليك اتقان الحركات وإلا متّ بتقرير قاتل في أي لحظة! تطوّرت أصابعنا على ذلك كما تطوّرت عيون الضباع على أن تلمع ليلاً!
مهنة الكتابة الآن مثل مهنة مبيّض الطناجر أو مصلّح الراديوهات والمسجلات القديمة، قضيت عمرك في تعلّم سر المهنة، ثم جاءت تقنية جديدة، جاءت «الآيفونات والسامسونغات» وتعال تعلّم عن جديد!
ذلك التحاذق الأدبي الذي أتقنّاه واعتدناه ودرّب بعضُنا بعضاً عليه، هل سيُضحي بلا معنى الآن؟ نحن أمّة من الذين تحولوا إلى خفافيش والآن عليهم أن يتذكروا أنهم عصافير وحمائم وربما صقور أيضاً.
أيتها البلاد.. سأنفض جناحي الخفّاش عن ظهري، سأُلقي عيني الضبع من وجهي، سأرمي «عدة التبييض» وأعيد طناجر النحاس إلى رفوفها، على أن تعدِيني وعد شرف، أن تمسكي على «شواربك وجدائلك»، أن تمسكي على فُراتك وعاصيك، على بردى وقلمونك، على قلاعك ووديانك وشواطئك.. أريد قسماً عظيماً بعظمتك أيتها البلاد، ألا تُرغميني على التحول إلى أي كائن آخر بعد أن أرمي كل شيء وأتحوّل إلى حمامة.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0