أكثم صبر الزمان
تغيب أحوال الشمال السوري عن الإعلام أو تكاد، منذ سقوط النظام السابق. كانت الشهور التي سبقت السقوط حافلةً بمختلف أنواع الاعتداءات والتجاوزات التي ارتكبها عناصر في عدد من الفصائل في قرى وبلدات عديدة، من عفرين، إلى ترحين، إلى الباب، وغيرها.
كثير من تلك الاعتداءات يأتي تطوراً لخلافات فردية، وفي حالات عديدة تنشأ تلك الخلافات بين شخصين من منطقتين مختلفتين يستعين أحدهما بفصيل ينتمي إلى منطقته، قبل أن تتدخل قوى مضادة لـ«تحصيل حق المعتدى عليه» دون انتظار المؤسسات الأمنية، أو يستعين كلّ من الشخصين بجماعته / عزوته / عائلته / أهل منطقته أو عشيرته، ليتطور الخلاف حدّ وقوع ضحايا.
جرائم قتل
أيضاً، يبرز تزايد جرائم القتل نتيجة الانفلات الأمني وعجز سلطات الأمر الواقع عن فرض الاستقرار، إذ ارتفع عدد الجرائم المرتكبة في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي خلال شهري تشرين الأول والثاني، بشكل غير مسبوق.
في 8 تشرين الثاني/نوفمبر أقدم رجل على طعن زوجته بأداة حادة (سكين) وخنقها حتى الموت أمام أنظار أطفاله، داخل منزلهما في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، قبل أن يسلم نفسه للشرطة العسكرية.
وفي السادس من الشهر ذاته، قُتل سليمان عز الدين (37 عاماً) أثناء مروره أمام مطعم في عفرين، بعد إطلاق النار عليه من قبل أشخاص يقودون سيارة جيب من نوع سانتافيه، دون ورود أنباء عن أسباب القتل وهوية القتلة.
كما قتل عدنان شحيمة على يد مجهولين أثناء عمله في حراسة بستان زيتون قرب قرية ندة، في 4 تشرين الثاني/نوفمبر، جراء تعرضه لطلق ناري بعد عراك مع عدد من اللصوص كانوا يحاولون سرقة محصول الزيتون؛ وقبلها بيوم، قتل رئيس التفتيش القضائي في القصر العدلي بمدينة الراعي الواقعة في ريف حلب الشرقي، محمد زيدان، وأصيب شقيقه، جراء تعرضهما لإطلاق نار من قبل عناصر حاجز عسكري يتبع فرقة السلطان مراد في قرية دلحة التابعة إدارياً لمدينة صوران، وقرب الحدود السورية - التركية.
فيما شهدت منطقة جرابلس وحدها ثلاث حوادث اغتيال واحدة منها طالت أحد عناصر الشرطة العسكرية في بلدة الغندورة، والثانية، طالت شاباً أثناء مروره أمام المدرسة المحدثة في جرابلس بدافع الثأر، والأخيرة في قرية التوخار الكبير حيث قتل مدني بطلقات نارية مجهولة المصدر.
تحوّل بعض هذه الحوادث إلى أرضية لخلافات عشائرية، كما حصل في قضية اغتيال عنصر الشرطة العسكرية في الغندورة، إذ خرج أهالي القتيل ضمن إحدى العشائر، في فيديو مصور طالبوا خلاله تسليم القاتل، دون انتظار دور المؤسسات العسكرية والقضائية للكشف عن ملابسات القضية.
ووثق «المرصد السوري لحقوق الإنسان» مقتل نحو 14 شخصاً، بأساليب وأشكال متعددة ضمن مناطق سيطرة «الوطني» في ريفي حلب الشمالي والشرقي، خلال تشرين الأول/أكتوبر وحده، بينهم 6 أفراد من المدنيين، و8 ينتمون لفصائل عسكرية.
التكتلات عوضاً عن المؤسسات
مع تزايد حالة الاعتداءات التي تطال الأهالي في مناطق متفرقة، وعدم نفاذ القوانين والأحكام القضائية لدى الأجهزة الأمنية، نشأت تكتلات على مستويات متعددة ومتنوعة تسعى إلى إيجاد مظلة تمثيلية وحماية، ومنها: عائلية، مناطقية، عشائرية.
عدم نفاذ الأحكام القضائية بحق المجرمين، والتدخلات الفصائلية في المجتمع بقوة السلاح ساهما في فقدان ثقة الأهالي بالمؤسسات الأمنية والقضائية
في الحالة العائلية تنشأ التكتلات في فناء الحي والحارة والأقارب، إذ يضطر الأهالي إلى تعزيز علاقاتهم مع أقاربهم بهدف الحصول على الحماية في حال نشوب خلاف مع عائلات أخرى، أو بهدف التمثيل الاجتماعي والإداري القائم على مبدأ المحاصصة، كما هو الحال في عضوية المجالس المحلية.
تبقى التكتلات العائلية محدودة النطاق إذ يقتصر تأثيرها العملي على البلدة والقرية، دون الخروج من إطارها، وكلما توسعت الرقعة تغير نوع التكتل، فالخروج من إطار المدينة يقودنا إلى تكتلات على أساس مناطقي.
يقول أحمد (31 عاماً) وهو نازح من القلمون الشرقي ويقيم في بلدة شيخ الحديد. إن «التكتل العائلي ضروري للشعور بالانتماء، لكننا نحن المهجرين لا نستطيع اعتماده، في ظل تفرق شمل عائلاتنا، لذلك نتجه إلى أبناء المنطقة التي ننحدر منها، وفي حال تعرض أحدنا لأي من أنواع الاعتداء نسهم جميعاً في التصدي للجهة المعتدية».
ويضيف: «الأجهزة الأمنية غير قادرة على تحصيل حقوق الناس، خاصة عندما يعتدي عنصر عسكري على شخص مدني، لأن الفصيل الذي يعمل معه سيدافع عنه مباشرةً أمام الشرطة العسكرية وقد يخرج دون إجراءات قضائية».
كما يشير إلى أن التكتلات المناطقية يمكنها أن تضمن حصول أفرادها على حصص من المساعدات الإنسانية والاجتماعية أيضاً. ولا تبقى تلك التكتلات دون «إطار تنظيمي»، ففي حالات كثيرة لوحظ تشكيل جماعات وروابط مثل: «رابطة أبناء دير الزور، ورابطة أبناء مدينة حلب»، وما إلى ذلك من المسميات.
العشيرة حاضرة بقوة
ضمن هذه الأطر، تفرض التكتلات العشائرية نفسها، خاصة مع كونها «عابرة للجغرافيا» فلا تقتصر على أبناء منطقة واحدة، وقد تجمع الآلاف من مناطق سورية متفرقة وتُنظم في الغالب على هيئة مجالس، مثل: «مجلس قبيلة النعيم، مجلس قبيلة حرب، مجلس قبيلة الجيسات، مجلس قبيلة القرعان».
يُعرف مصطفى البكري (40 عاماً) نفسه بوصفه أحد أبناء قبيلة الجيسات، ويرى أن الدور العشائري «مهم في المنطقة إذ يسهم في حل العديد من الخلافات، لكن دورها في المدة الأخيرة أخذ يدور في منحى غير ملائم».
يعتقد الرجل أن «الانتماء العشائري لا يعود بالنفع سوى في تحصيل الحقوق، إذ يمكن اللجوء إليه في حال تعرض أحد أفراد القبيلة أو العشيرة لاعتداء من قبل أشخاص آخرين، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين».
ويضيف: «الاقتتال الذي يدخل ضمن الإطار العشائري كما حصل في العديد من الحوادث يضع كل أبناء القبيلة أو العشيرة أمام خطر، وهذا غير مرغوب، كما أنه قد يسهم في الدفاع عن مجرمين بالفعل لا بد من محاسبتهم قانونياً».
تهديد للسلم الأهلي
يرى المحامي والحقوقي يوسف حسين، أن التكتلات ساهمت في تغييب دور المؤسسات الأمنية والقضائية، العسكرية والمدنية، ما تسبب في ارتفاع معدلات الانتهاكات وارتكاب الجرائم، خاصة من حملة السلاح الذي يُستخدم في الخلافات الاجتماعية والمالية.
يقول «إن انتشار السلاح بين الأهالي والاضطرار للعمل المسلح لتحقيق دخل شهري، أو الحصول على الحماية، يؤدي إلى ارتكاب الجرائم حتى في أبسط الخلافات الشخصية ضمن المحيط الاجتماعي».
ويضيف: «انتشار المخدرات والسلاح وضعف أداء المؤسسات أبرز ما يزيد وتيرة الاعتداءات والجرائم، ما يدفع الأهالي إلى تعزيز دور التكتلات بمختلف المستويات». مشيراً إلى أن الأوضاع الاقتصادية وفراغ الناس بسبب قلة فرص العمل، وتفشي الفقر وارتفاع نسب البطالة تزيد حالة الانفلات الأمني والخروج عن القوانين.
في المقابل يؤكد الباحث في قضايا السكن والمجتمع ضمن مركز «جسور» للدراسات، بسام سليمان، أن عدم نفاذ الأحكام القضائية بحق المجرمين، والتدخلات الفصائلية في المجتمع بقوة السلاح ساهما في فقدان ثقة الأهالي بالمؤسسات الأمنية والقضائية.
يرى سليمان أن تهميش الأجهزة الامنية والقضائية في ملاحقة مرتكبي الجرائم، والاعتماد بدلاً من ذلك على الصلح على أساس مناطقي وعشائري تحت عنوان الدية (عاقلة) يزيد حالة التشظي المجتمعي، فـ«لا بد من محاسبة المجرم قانونياً للحد من التجاوزات».
ويضيف: «ظهور التكتلات العائلية والمناطقية والعشائرية يهدد السلم الأهلي بين السكان، ويرفع من معدلات الجريمة والاعتداء بدافع الثأر، وتكرار الجرائم يهدد بتعطيل الحياة المدنية، وينذر بتفكك النسيج الاجتماعي، ما ينعكس على الترابط والعلاقات المجتمعية بين السوريين».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0