فرات زيزفون
الصورة: (سوشال ميديا)
بعد سنوات من هيمنة «حزب البعث» على السلطة وجد جميع السوريين أنفسهم يعيشون في ظل حكم مركزي يوزع أدواراً لرسم توازن شكلي بين «مكوّنات الشعب»، وتعزّز ذلك بشكل خاص بعد قبض حافظ الأسد على السلطات ليبدأ اشتغال ممنهج على تكريس غير مُعلن لتجزئة السوريين إلى «جماعات» تنضوي تحت مظلّات مختلفة، بعيداً من «سقف دولة المواطَنة» الذي يُفترض أن يُظلل الجميع على قدم المساواة.
راكم ذلك «رصيداً» سعت السلطات إلى صرفه في العام 2011 وما تلاه، لتُروّج لنفسها بوصفها «ضامنة للأقليّات».
خلال السنوات الـ 14 التالية غيرت ظروف الحرب وما أفرزته من خرائط سيطرة، وصعود وهبوط لتيارات وقوى متشددة مختلفة، وتدخل من قوى إقليمية ودولية، الشكلَ الذي كرسته السلطة للمسيحيين، ففي شرق البلاد اختاروا تنظيم أنفسهم ضمن تشكيلات عسكرية انضوت تحت راية قوات سوريا الديمقراطية، وفي وسط وشمال وغرب سوريا حاولوا التماهي مع مجتمعهم للحفاظ على وجودهم، والحد من نزيف الهجرة الذي خفّض عددهم من نحو 1.5 مليون شخص في سوريا (10 في المئة من السكان) قبل العام 2011، إلى نحو 300 ألف فقط (أقل من 2 في المئة من السكان)، وفق تقديرات غير رسمية لمنظمة «Aid to the church in need» الخيرية الكاثوليكي، العام 2022.
تعرّض المسيحيون لحملات تهجير ممنهجة في بعض المناطق، كما تعرضت بعض الشخصيات الفاعلة للإخفاء القسري أو الخطف أو القتل، من بينهم المطرانان يوحنا إبراهيم، مطران حلب للسريان الأرثوذكس، وبولس يازجي، مطران أبرشية حلب للروم الأرثوذكس، اللذان اختطفا العام 2013 خلال رحلة وساطة لإطلاق سراح مختطفين، وانتهى بهما المطاف وفق تقارير إعلامية في قبضة تنظيم «داعش» المتطرف ولا يزالان مجهولي المصير حتى الآن في غياب معلومة قاطعة. (شأنهما في ذلك شأن الكاهن الإيطالي الأب باولو دالوليو).
8 كانون الأول.. وما بعده
غيّر تهاوي النظام السابق وفرار الأسد، وصعود «هيئة تحرير الشام» المشهد في سوريا عموماً، وأسهم تاريخ «الهيئة» المتشدد في دفع الحديث عن «الأقليّات» إلى الواجهة وسط مخاوف تراكمية، بعضها يرتبط بالنظام السابق الذي صدّر نفسه «حامياً» لهم، وبعضها الآخر يرتبط بتاريخ الجماعات التي صعدت إلى السلطة، وما مارسته سابقاً من أعمال قتل وتهجير في مناطق سيطرتها على مدار سنوات، قبل أن تغيّر من سلوكها في السنوات الأخيرة.
وكحال جميع السوريين، وجد المسيحيون أنفسهم فجأة أمام حالة غير معهودة، فالجيل الذي عاش أكثر من نصف قرن في ظل سلطة مركزية قمعية إقصائية، بات مطالباً بلعب دور في بناء سوريا الجديدة، للحفاظ على حقوقه ومنع استئثار جهة ما بالسلطة أولاً، ولدوافع أخرى ترتبط بالرغبة بلعب هذا الدور، الذي كان، حتى وقت قريب، من المحرمات.
لعقود شهدت سوريا اشتغالاً ممنهجاً على تكريس غير مُعلن لتجزئة السوريين إلى «جماعات» تنضوي تحت مظلّات مختلفة، بعيداً من «سقف دولة المواطَنة» الذي يُفترض أن يُظلل الجميع على قدم المساواة
يُفسر ما سبق إصدار عشرات البيانات التي أعلنت نفسها ناطقة باسم فئات من السوريين والسوريات، قبل أن تدخل الكنائس بنفسها على الخط، وتتحول إلى ناطق باسم المسيحيين في ميدان السياسة، خصوصاً بعد تحرك السلطات الجديدة نحو الكنائس ورجال الدين المسيحي، ما قد يحتمل تفسيره بأنه «مسعى استثماري» لمحو وصمة التشدد، ثم بعد أن مدت قوى إقليمية ودولية يدها نحو سوريا، وبدأت عقد اجتماعات مع المسيحيين لـ «الدفاع عن حقوقهم»، في مشهد يعيد إلى الأذهان زمن الانتداب الفرنسي، عندما دخلت فرنسا إلى سوريا تحت عباءة حماية الأقليات، إثر تفكك الدولة العثمانية.
سجالات داخلية
مع سقوط النظام السابق، ظهرت تباعاً دعوات عديدة لإسقاط، أو معاقبة شخصيات وكيانات كانت تُحسب عليه، سواء عبر علاقات اقتصادية، أو عبر اتهامها بلعب أدوار أخرى، من بينها «التسويق» له، الأمر الذي طاول الكنيسة الأرثوذكسية التي يترأسها يوحنا العاشر يازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس (وهو شقيق المطران المخطوف بولس يازجي).
ظهر يوحنا العاشر في مناسبات عديدة طالب خلالها برفع العقوبات المفروضة على سوريا، من بينها زيارة أجراها إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل نحو عامين. على خلفية ذلك، أطلق ناشطون يحملون اسم «حركة التغيير الأنطاكي» حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بتنحيه عن السّدة البطريركية.
هاجم مطلقو البيان المطران يازجي واتهموه بالحصول على الكرسي الأنطاكي عبر «انتخابات مزورة بدعم من نظام الأسد»، كما اتهموه بمحاباة النظام وتحويل الكنيسة «من منارة روحية إلى أداة تدافع عن نظام قمعي، وجعلها غطاءً سياسياً للنظام بدلاً من أن تكون ملجأ للضحايا»، وفق ما جاء في البيان الذي اتهم الكنيسة أيضاً بالتقصير في حراكها لكشف مصير المطرانين (بولس يازجي ويوحنا إبراهيم).
في المقابل شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حراكاً من قبل ناشطين رفضوا هذا البيان واعتبروه «انتهاكاً لقدسية المقعد الأنطاكي، ويأتي في سياق صراعات داخلية هدفها تشويه الحقائق بما فيه مدى علاقة المطران بالنظام»، التي كانت «ضمن الحدود المعروفة للعلاقة بين رجال الدين والسلطة»، وفق الناشطين.
..وأدوار خارجية
منذ العام 2011 تبلور الدور الخارجي في القضية المسيحية، كان موجوداً بشكل واضح قبل ذلك عبر بوابات عديدة، إذ وكّلت فرنسا نفسها وصية على المسيحيين منذ الانتداب ولم تتخلّ عن هذا الدور، ظهر ذلك خلال فترة الانفتاح الفرنسي على سوريا بين العامين 2002 و2010، غير أن هذا الدور أخذ منحى مختلفاً في ما بعد، خصوصاً بعد زيادة الضغوط على المسيحيين، إذ قامت دول عديدة بفتح باب الهجرة المنظمة للمسيحيين (كندا وأستراليا على وجه التحديد)، ما أسهم بتسريع وتيرة عملية إفراغ سوريا من المسيحيين.
بعد سقوط نظام الأسد، سارعت فرنسا إلى دمشق عبر زيارة أجراها وزير خارجيتها جان نويل بارو، التقى خلالها الزعماء الروحيين للطوائف المسيحية، وأعلن عن مساعٍ فرنسية لتنظيم مؤتمر «لمرافقة الفترة الانتقالية»، والتأكد من أنها «تسير في الاتجاه الصحيح».
مبادرات وأصوات كنسية
في مقابل كل هذه التعقيدات برزت أصوات تُناهض لتأطير المسيحيين السوريين في أُطر ضيقة، وتدعو إلى بناء دولة مواطنة تحفظ حقوق الجميع، وليس فقط المسيحيين، ويشارك الجميع في صياغتها.
من بين هذه المبادرات، واحدة أصدرها رؤساء كنائس في مدينة حلب في 27 كانون الأول/ديسمبر الماضي.
أكدت المبادرة التي حملت عنوان «رؤية مسيحية لمستقبل سوريا» أن سوريا دولة مدنية تعددية ديموقراطية، السيادة فيها للشعب، ولا يجوز لأية فئة احتكارها، وأن مصادر التشريعات متنوعة تصون مصالح الشعب وتلتزم مبادئ حقوق الإنسان.
المبادرة التي جاءت تفصيلية تشرح الشكل المأمول للدولة السورية، اقترحت تشكيل برلمان بغرفتين (مجلس شيوخ ومجلس نواب) لمراعاة تمثيل جميع مكونات المجتمع. كما دعت إلى انتهاج نظام اقتصادي «صالح يحقق العدالة الاجتماعية ويصون حق العمل ويؤمن العيش الكريم للمواطنين».
علاوة على المطالبة بـ«إشراف أممي على عملية الانتقال من السلطة إلى الدولة المأمولة خلال مدة 18 شهراً، وفق القرار 2254 بعد تعديله بما يتوافق مع الحالة الراهنة، عبر تشكيل حكومة انتقالية تضم مكونات الشعب كافة، وتشكيل لجنة من كل مكونات الشعب لصياغة دستور دائم وإقراره، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تضمن مشاركة الجميع».
بدا لافتاً غياب توقيع الروم الأرثوذكس على هذه المبادرة، ما من شأنه أن يكرس حالة الشقاق الداخلية، وسط دعوات إلى عمل مشترك توافقي موحد، من الواجب أن يقوم على أساس المواطنة لا الانتماءات الدينية أو الطائفية أو الاثنية، وهي خطوة تبدو، حتى الآن، بعيدة في ظل الظروف الراهنة.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0