سُليمى راو
الرسم: (Toso Borkovic - كارتون موفمينت)
يستخدم علماء الاجتماع السياسي الثورةَ الفرنسية (1789) بوصفها مثالاً كلاسيكياً عن مراحل التحول الجذري والثوري التي تمر بها المجتمعات. ويتفق كثير من دارسيها على أن أحد الخطوط الزمنية الأساسية في قراءتها يتضمن ثلاث مراحل كبرى:
- الأولى هي مرحلة الثورة الفكرية في صفوف النخبة (عصر التنوير الذي سبق الثورة الفرنسية نفسها بأكثر من 100 عام).
- الثانية هي الثورة بشكلها السياسي المباشر الذي يتضمن ضرب السلطة القائمة.
- الثالثة هي مرحلة الثورة الفكرية على مستوى عموم الناس؛ أي تحول أفكار عصر التنوير من أفكار محصورة ضمن النخبة، إلى أفكار سائدة ضمن المجتمع.
ضمن هذا التقسيم العام للمراحل، تكون مرحلة الثورة السياسي هي الأقصر زمنيّاً، أما مرحلتا الثورة الفكرية، على مستوى النخبة، ثم على مستوى عموم الناس، فهما مرحلتان طويلتان.
قد لا يكون من الصحيح علميّاً استنساخ هذا التتالي نفسه لقراءة ما جرى وسيجري في سوريا، ولكن على الأقل يمكنه أن يُقدم تصوراً أولياً قد يساعد في فهم ما جرى، وما ينبغي أن يجري.
سقطت السلطة. هذا قد يُعبر عن اكتمال مرحلتين من المراحل الثلاث، ويبقي على جدول العمل الوطني المرحلة الثالثة. علماً أن السؤال عن دور النخبة في سوريا، وهل «كتبت وظيفتها» حقاً قبل سقوط السلطة السياسية، هو سؤال مشروع تؤيده حقائق كثيرة قد يرجح معها أن «النخبة» لم تنجز وظيفتها كما يجب.
«لعنةُ» الحزب الواحد
كي لا نغرق في الكلام النظري، ربما كان مفيداً الانتقال إلى مناقشةٍ ملموسةٍ لواحدٍ من جوانب الثورة الفكرية المطلوبة؛ وهو كيفية التخلص من عقلية الحزب الواحد- القائد. وللتخلص من أي شيء ينبغي فهمه وفهم تأثيراته ونتائجه بأكبر قدرٍ ممكن من العمق.
بين السمات الفكرية التي يفرضها وجود الحزب الواحد- القائد، على المجتمع وعلى الحركة السياسية، الاستقطاب الثنائي الحاد: استقطاب 0 أو 1، خاطئ أو صحيح، خائن أو وطني، رجعي أو تقدمي، شرير أو خير، ضدي أو معي وإلخ... بما يحوّل الحياة السياسية والثقافية بتلويناتها المعقدة والغنية إلى لوحة باهتة بالأبيض والأسود، منفصلة عن الواقع وعن الناس.
علة هذا الأمر تكمن في التفاعل بين جانبين: في جهة تُقدّم السلطة المستبدة نفسها بوصفها الخير المطلق، وبوصفها الرشاد والحكمة والصواب، وما عداها شر مطلق. وفي الجهة المقابلة تقدم المعارضة نفسها - بسوادها الأعظم - بالطريقة عينها والمنطق نفسه؛ أي هي الخير المطلق والسلطة هي الشر المطلق... وبين «خير مُطلق» و«شرّ مُطلق» تضيع البرامج السياسية والاقتصادية والوطنية، إلى ذلك الحد الذي لا يعود من المستغرب فيه أن نرى معارضات لها برامج السلطة نفسها، وخلافها مع السلطة محصور في «من يحق له أن يكون في السلطة»!
التوافق في نهاية المطاف ليس أخذاً بالرأي الأول ولا بالثاني، وليس بحثاً عن رأي وسط بينهما، بل هو أشبه بعمليات الجداء الشعاعي
ربما كان من المفهوم «منطقياً» أن تسوّق السلطة نفسها خيراً مطلقاً، حفاظاً على موقعها، لكن تقديم المعارضة نفسها خيراً مطلقاً هو أمرٌ بحاجة إلى تفسير؛ ولعل من تفسيراته شعورُ المعارضة بأن علاقتها مقطوعة أو شديدة الضعف مع المجتمع ومع السلطة على حدّ سواء، وتالياً فتأثيرها منخفض أو معدوم. ولذا قد تجد نفسها غير معنية بالوصول إلى أي توافقات، أو بتقديم أي تنازلات، أو بالبحث عن «حل وسط»، بل تعتقد أن عليها فقط تسجيل موقف «أخلاقي» والتمترس عنده في انتظار الظروف الدولية والإقليمية المناسبة التي ستجلب التغيير تلقائيّاً!
هيمنة عقلية الحزب الواحد طوال عقود في سوريا أدّت إلى سيادة المنطق الشكلي/ الصوري/ الأرسطي: منطق صفر أو واحد، وعليه بات الحوار بلا معنى، وبات مجرد شكليات تنطوي على تكاذب متبادل: السلطة تكذب على المجتمع حين تدّعي أنها تأخذ رأيه عبر الانتخابات وعبر الحوارات وعبر الإعلام، وتعرف أن المجتمع يعرف أنها تكذب، والمجتمع يكذب على السلطة عبر الاشتراك الشكلي في مهرجاناتها، ويعرف أنها تعرف أنه يكذب... والمعارضة تقاطع كل شيء ولا تشارك في شيء ولا تمارس فعلاً ملموساً، وتكتفي بالتمترس عند مواقفها بدون محاولة تجميع وتحشيد المجتمع لمناصرة تلك المواقف.
تخلق عملية التكاذب هذه مجالاً فكرياً شديد الفقر والسطحية، وتعيق، بل وتحارب أي محاولة لإعادة صياغة الواقع خارج الثنائيات الحادة المتفق عليها عملياً بين النظام والمعارضة.
رياضيات عليا
تجاوزُ حالة التحزب الحاد الصارم بين «الخير» المزعوم و«الشر» المزعوم، بين «الصواب» المدّعى و«الخطأ» المدّعى، ليس بالأمر الهين على الإطلاق، وليس عملية «تبويس شوارب»، بل هو تمرين رياضيات عُليا شديدة الصعوبة والتعقيد؛ فالتوافق في نهاية المطاف ليس أخذاً بالرأي الأول ولا بالثاني، وليس بحثاً عن رأي وسط بينهما، بل هو أشبه بعمليات الجداء الشعاعي. (حاصلُ ضرب شعاعين يكون شعاعاً ثالثاً عموديّاً عليهما. الشعاعان المضروبان يقعان حكماً على صفحة واحدة، ضمن مستوىً واحد، أي يشكلان معاً مسطحاً ببعدين، في حين أن الشعاع الثالث الناتج عن ضربهما، يشكل معهما فراغاً ثلاثي الأبعاد).
إذا حاولنا إعادة صياغة الفكرة بطريقة أخرى بلا تعقيدات الرياضيات، يمكننا القول: إن الوصول إلى حالة التوافق بين مجموعة آراء مختلفة، لا يكون بجمعها أو طرحها أو البحث عن رأي وسط بينها، بل عبر تفاعل إبداعي بين هذه الآراء، ما يسمح بإنتاج رأي جديد أكثر عمقاً ونضجاً من كل الآراء السابقة... التوافق ينقل الآراء/الأشعة من شكلها المسطح على الورق، إلى شكل فراغيٍ ثلاثي الأبعاد، أي إلى الواقع العملي الملموس.
إتقان هذا الفن، فن التوافق، يتطلب حكمةً وصبراً وتفهماً وسعة صدر، ويتطلب أيضاً امتلاك مستوى معرفي عالٍ، وقدرة إبداعية متطورة، وفوق هذا كله يتطلب تجريباً متواصلاً وجاداً عنوانه العام: «الحوار الوطني»، الذي لا يقتصر على مؤتمر هنا وآخر هناك، بل ينبغي أن يتحول إلى ثقافة مستمرة، إلى ثورة ثقافية، وإلى أداة عمل أساسية في بناء البلاد الجديدة التي يريدها السوريون والسوريات.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0