سُليمى راو
الرسم: (Hassan Bleibel - كارتون موفمينت)
تخامَدَ ترند «التكويع» الذي بلغ ذروته بعد أيامٍ من فرار بشار الأسد، وقلّ وهجه ولم يعد مثيراً للانتباه أو الاهتمام أو الضحك؛ شأنه في ذلك شأن أي «ترند» آخر... يصعد بسرعة مثيراً زوبعة في فنجان، ثم سرعان ما يذوي ويضعف ويختفي.
ولأن هذا «الترند» تراجع نسبياً وانجلى الغبار الذي أثاره، بات ممكناً الآن نقاشه والتفكير في أسبابه ونتائجه بقدرٍ من الهدوء والتعقل؛ فمن سمات «الترندات» أنها في معظمها شبيهة بالوجبات السريعة الضارة: قنبلة من الكربوهيدرات التي ترفع الأنسولين بسرعة ومعه السيراتونين، محدثة شعوراً مؤقّتاً بطاقة كبيرة، وبشيء من النشوة التي سرعان ما تتلاشى وتتلاشى معها فورة الطاقة، ليحل محلهما الخمول والتعب والتوتر والشعور بنقص السكر، ما يولد الجوع مرة أخرى لوجبة ضارة جديدة، أو «ترند» جديد... مع ما يخلفه الغرق في هذه الدوامة من بدانة وترهل نفسي وعقلي.
إذاً، فلنجرب تناول قدرٍ من الخضراوات، الخس تحديداً، على شرف «التكويع» و«المكوعين»، محاولين الاستمتاع بمذاقه ورقةً وراء الأخرى، لعلّنا نصل اللب!
ورقة أولى (الخوف)
يمكن تفسير ما سُمّي «تكويع» جزءٍ من «المكوعين» بالخوف. وبلغة التحليل النفسي، يمكن التعامل مع التكويع في هذه الحالة، بوصفه آليةً من آليات الدفاع. وفي بعض الحالات يمكن التعامل معه على أنه شكل من أشكال متلازمة ستوكهولم، إذ يرى المكوع نفسَهُ في موقع المخطوف والمعرض للأذى، فيتماهى مع خاطفه ويتبنى رؤاه وأفكاره كما هي. والعام المشترك في التكويع خوفاً، أنه تكويعٍ سلبي يضع صاحبه في موقع انعدام الفعل، وفي موقع المنتظر العاجز عن القيام بأي شيء مفيد.
ورقة ثانية (الانتهازية)
«المكوّعون» انطلاقاً من غايات انتهازية هم - في معظم الحالات - الانتهازيون السابقون أنفسهم، الذين استخدموا التصفيق و«الكولكة»، لا بدافع الخوف المحض (وإنْ كان من غير الممكن نفي دافع الخوف عنهم)، بل بدافعٍ من الرغبة في الاستفادة الشخصية... هذا النوع ربما يكون الأشد خطراً، لأن تكويعه تكويعٌ نشطٌ بالاتجاه السلبي، فهؤلاء قادرون على التحول ببساطة إلى «شبيحة» جدد، ومطبلين وفاسدين... يشمل هذا النوع قسماً محدداً من «الثوار» و«المعارضين» و«النخب»، الذين جرى إفسادهم خلال السنوات الماضية بالمناصب والأموال والشهرة، ووجدوا أنفسهم فجأة خارج دائرة الضوء، ويحاولون إعادة صياغة مواقفهم والمزاودة فيها على أمل استقطاب الضوء مجدداً من كوة السلطات الجديدة.
ورقة ثالثة (الخوف مرة أخرى)
نحن هنا أمام «مكوعين» شكلاً، بينما موقفهم الضمني الحقيقي هو الموقف الذي يتبنونه الآن علناً، أي الموقف الرافض والمعارض لسلطة الأسد، وكانوا يخفونه سابقاً بدافع من الخوف من السلطة السابقة، وهؤلاء قد يشكلون القسم الأكبر ممن يجري وصفهم بـ«المكوعين».
ورقة رابعاً (التكيّف)
تشمل هذه الفئة عدداً كبيراً من الناس الذين استسهل بعضنا تسميَتهم بجماعة «الله يفرج». هؤلاء كانوا يعيشون حياةً مريرة يسعون خلالها، وبشق الأنفس، إلى تأمين لقمة العيش في ظروف مأسوية يحاولون خلالها شق طريقهم بين الرصاص والحواجز. هؤلاء ما زالوا يعيشون المرارة نفسها بجانبها المعيشي، ويمارسون في الإطار السياسي شكلاً من أشكال التكيف مع الوضع الجديد، يراه البعض «تكويعاً»، لكنه لا يمتلك في الحقيقة صفات «الكوع» التي تفترض تغيراً كبيراً في اتجاه الموقف السياسي، لأن التغير الذي طرأ على مواقفهم هو تغير طفيف بالمعنى السياسي، لأن مواقفهم المعلنة كانت ف الأصل مواقف «لايت»- خفيفة، أي ليست حادةً ولا صدامية.
ورقة خامسة (الأمل)
ثمّة بين من يجري وصفهم بالمكوعين، فئة يمكن ردّ سبب تكويعها إلى «الأمل بالجديد»، فمن شأن أي تغيير أن يحمل فرصاً إيجابية، وهؤلاء يعبرون بشكلٍ صادق، حتى ولو كان سطحياً في كثير من الأحيان، عن أملهم في أن تتحول الفرص الإيجابية إلى وقائع تغير البؤس الذي عاشوه ويعيشونه منذ سنوات طويلة.
ورقة سادسة (هرمنا)
أعتقد، وعلى أساس المشاهدات الشخصية المباشرة، أن بين أوسع فئات من يوصفون بـ«المكوعين»، أولئك الذين يعبر «تكويعهم» عن حقيقة بسيطة هي التالية: هرمنا، وتعبنا، ولا نريد المزيد من الدماء والقتل والفقر والخراب... نريد هدوءاً وحياة كريمة، لا نريد صراعات ولا نريد انقسامات حادة في المجتمع... نريد أن نعيييش.
اللب، ربما؟
عملية «التكويع» في جوهرها، هي شكلٌ من أشكال التكيف مع الواقع الجديد، حتى وإنْ تعددت وتنوعت أسباب المكوعين والمكوعات، وحتى وإنْ اختلفت الغايات بين ما هو إيجابي وما هو سلبي.
التكيّف في مضمونه الأساسي إيجابي، حتى وإنْ اعترته مظاهر سلبية. وهذا التكيف و«التكويع» يشمل الجميع تقريباً، وربما دون استثناءات؛ فحتى السلطات الجديدة يمكن حسابها على المكوعين إنْ انطلقنا من تغير الخطاب والاتجاهات والسلوك.
المؤكد أن هناك رغبة - على نطاق لا يُستهان به في المجتمع السوري - بتنحية أفكار التشفي والانتقام والإذلال، والانتقال نحو واقع جديد قائم على الألفة والهدوء والأمان والعيش الكريم.
حصر التعامل مع «التكويع» بالسخرية إنّما يُعبّر عن نزقٍ شديد، يمكن فهمه في كثير من الأحيان، وحتى تبريره في بعض الحالات، ولكن ما هو أخطر من ذلك أن استسهال تصنيف الناس وصولاً إلى محاولة إذلالهم والتكبر عليهم ينطوي على قدر غير قليل من تدني الشعور بالمسؤولية العامة، خاصة والبلاد لا تزال هشة ومثخنة بالجراح، وتحتاج حكمة وتعقلاً وحنواً في التعامل معها ومع أهلها.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0