زياد قطرميز
الرّسم: (عماد حجّجاج - كارتون موفمينت)
شكّلت الدعاية الغربية والمَجموع الثقافي والأدبي الذي قدمته نخبها الثقافية والإعلامية والتأريخية عبر مئات السنين صورة غير قابلة للجدل عن مَحاكم التفتيش التي سادت أوروبا في العصور الوسطى: إنها الجحيم المُطلق الذي لا يُمكن أي إنسان أن يَحتمل وجوده فيها.
بحكم العادة، انتقلت هذه الصورة كما هي إلى العالم العربي، غير أن فارقاً مُهماً بين الحضارتين (الغربية والشرقية) ربما لم يدُر في بال مُثقفي العرب، خلال استعارتهم مصطلح «محاكم التفتيش» للتعبير عن الظلم الذي يعيشه الإنسان العربي تحت وطأة حكامه؛ المقارنة قد تكون غير جائزة، فنسبة ما يعتبره الإنسان الأوروبي ظلماً وغير عادل، أعلى بكثير مما يعتبره المواطن العربي.
إن عتبة العدالة الأوروبية مرتفعة جداً، وقد تكفي المواطن العربي عتبة منخفضة إلى الحد الذي يجعل من محاكم التفتيش حلماً؛ للسوريين على الأقل وخصوصاً في حقبة الأسدين.
حلم الإنسان السوري، أيّاً كانت هويته أو معتقده أو إثنيته، وأيّاً كان النظام الذي يحكمه؛ هو أن يخضع لمحاكمة، وإن توافرت؛ فقد يُكمل إلى الشرط التالي وهو أن تكون المُحاكمة عادلة! غير أن الدمج بين كلمتي «محاكمة» و«عادلة»، يبدو أصعب من دمج ذرتي هيدروجين في أحدث مفاعلات الدمج الأوروبية والصينية والأمريكية مجتمعة!
إن تغييبك تحت الأرض في حقبة الأسدين؛ كان أسهل من قطع قالب حلوى في عيد ميلاد، بينما خروجك حياً أو سليماً عقليّاً أو جسديّاً؛ كان أصعب من سحب سيف إكسكاليبر (السيف الذي علق في الصخر)، ولذلك كنت أؤمن أننا نعيش في زمن محاكم التفتيش، وأستخدم المصطلح دوماً للإشارة إلى عهد النظامين السائد والبائد، وقد ترسّخت هذه الفكرة لدى العامة بعد أن أطلّ علينا فيلم »أشباح غويا» وهو يُصوّر ناتالي بورتمان تُعاني الأمرين في محاكم التفتيش.
غير أن الحقيقة طرقت بابي أخيراً وبالمصادفة البحتة؛ حين كنت أقرأ عن مُحاكمة غاليليو غاليلي الشهيرة، التي، كما يَعلم الجميع، كانت تحت إطار مَحاكم التفتيش القاسية، ففي كتابه «غاليليو يذهب إلى السجن -Galileo Goes to jail»؛ يسوق الكاتب الأوكسفوردي موريس فينوكارو البراهين ليثبت أن بطله لم يخضع لأي تعذيب أو حتى السجن استناداً إلى القوانين الناظمة لعمل محاكم التفتيش..
يا للمفاجأة! لم يستطع عقلي السوري المُرتبط بفرع الخطيب والمُخابرات الجويّة وسجن صيدنايا استيعاب وجود قانون ناظم لعمل محكمة أصلاً؛ أيا كانت تلك المحكمة، فضلاً عن أن تكون محكمة تفتيش!
ثمّ يُغرق الكاتب الأكسفوردي في ذكر تفاصيل محاكمة غاليليو، نقلاً عن سجلات التحقيق، وهنا زاد الأمر عن حده كثيراً، وتبخر ما يُمكن أن يتبخر من عقلي الشرقي؛ سجلات؟! ولمحكمة تفتيش! هل كانوا على قدر من الجرأة إلى حد توثيق جرائمهم؟ ألم يُحرقوا الجثث في أقرب معمل إسمنت وكل ما يتعلق بإثبات وجود ذلك المعتقل البائس و«يا دار ما دخلك شر»؟
لم يستطع عقلي السوري المُرتبط بفرع الخطيب والمُخابرات الجويّة وسجن صيدنايا استيعاب وجود قانون ناظم لعمل محكمة أصلاً؛ فضلاً عن أن تكون محكمة تفتيش
يستفيض فينوكارو، فيشرح أن عمر غاليليو وحالته الصحية وقتها؛ كانا ليُجنّبانه العقاب المفروض في محاكم التفتيش، فالأخيرة كانت «تتجنّب تعذيب كبار السن والمرضى والأطفال والنساء الحوامل». أوف!! هل هنالك ما يُجنّب المرء التعذيب؟ عمره أو حالته الصحية؟! يعني أنه يُمكن لأي مُعتقل في محكمة التفتيش أن يثبت أنه مريض، وذلك كفيل بأن يجنبه التعذيب؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نعمة، نعمة يتمناها كل مواطن سوري. إن النعمة التي نتمناها، هي أسوأ ما مر على المواطن الأوروبي؟ إن جنتنا هي جحيمهم؟!
لم أعد أحتمل، لقد أنستني تفاصيل المُحاكمة، غاليليو وقصته، وبدأت بالبحث في القوانين الناظمة لعمل مَحاكم التفتيش، القوانين التي لم أكن أعتقد أنها موجودة أصلاً.
طلبت طلباً بسيطاً من «شات جي بي تي»، وهو أن يقارن؛ ويستنتج: هل محاكم التفتيش كانت أكثر وحشية أم محاكم نظام بشار الأسد؟ ولم يكن الجواب مفاجئاً لي أبداً، وإليكم النتيجة:
- من الأكثر وحشية؟
- محاكم التفتيش كانت وحشية، لكنها كانت «مؤسسية» ولها إجراءات محددة، أما محاكم النظام السوري فهي أقرب إلى تصفية جسدية مباشرة دون الحاجة إلى أي إجراءات قانونية حقيقية. عدد ضحايا نظام الأسد يفوق بكثير ضحايا محاكم التفتيش، سواء في حجم الإعدامات أو في أساليب التعذيب المروعة المستخدمة. محاكم التفتيش كانت تهدف إلى «تطهير ديني»، بينما محاكم الأسد تهدف إلى الحفاظ على الحكم بالقوة المطلقة. بالتالي، يمكن القول إن محاكم نظام بشار الأسد أكثر وحشية، عشوائية، وإجراماً من محاكم التفتيش، خاصة من حيث عدد الضحايا وأساليب التعذيب.
بالبحث عن المقصود بالكلمة التي عرّف بها الذكاء الاصطناعي محاكم التفتيش «المؤسسية» وجدت أن تلك المحاكم كانت تخضع لكثير من القوانين الناظمة التي كان من شأنها أن تجنب المتهم التعذيب، فلمحاربة التقارير الكيدية مثلاً؛ سمحت الكنيسة للمتهم بتقديم لائحة أسماء من يعتقد أنهم أعداء له، وفي حال ثبت أن «كاتب التقرير» وارد في قائمة الأعداء؛ كان يخلى سبيل المتهم، ولك أن تتخيل حجم التقارير الكيدية التي أرسلت آلاف السوريين إلى المعتقلات.
أما التعذيب الجسدي؛ فقد خضع في «قوانين محاكم التفتيش» لكثير من الضوابط، منها اشتراط ألا يؤدي إلى إعاقة دائمة أو إلى الموت، ولك أن تتخيل مصائر السوريين ومقابرهم الجماعية.
باختصار، يبدو أن أكبر عهد «قضائي» كارثي مرّ على أوروبا؛ هو ما لم نحصل عليه نحن إلى الآن، فهل يجوز لنا أن نطالب بمحاكم تفتيش تحقق بعضاً من العدالة والرحمة؟ أنا عن نفسي صرت أحلم بوجود نسخة سورية من محاكم التفتيش، أعتقد أنها ستكون الجنة السورية الموعودة، لأنني لا أريد أن أكون خيالياً أكثر من اللازم وأن أطمح إلى محاكم أوروبا المعاصرة.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0