رنيم غسّان خلّوف - كاتبة ضيفة
الرّسم مولّد باستخدام الذكاء الاصطناعي
أتى الإعلان على الشكل التالي: «نبحث عن صوتكِ الخاص، عن علاقتك بكل ما حولك في ضوء التطورات على الساحة السوريّة: بالأسرة، بالعاطفة، بالعمل، بالمجتمع، بالقيود، بالعادات، بالقوانين، بسوريا المستقبل.. إلخ».
هي الحروف الأخيرة الثلاثة في الدعوة التي جذبتني «إلخ»! وبدأت البحث عن زاويةٍ مختلفة، لأرى فيها نفسي، نعم وجدتها إنها «تطوّر نفسي السياسية»! وتساءلت: هل خشي من صمم تلك الدعوة أن يكتب بعد الأسرة أو قبلها كلمة «السياسة»؟!
منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وحتى الآن أتلقى اللوم من طرفي نزاع، أحدهما يصفني بـ«المكوعة»، وآخر يقول لي باستمرار: «هدول جماعتك»، وبين هذين الخطابين تأتي إلى ذاكرتي أغنية نجوى كرم: «أنا مين لو سألوني؟»، لأجيب: «أنا مين.. بقلن أنا!»، لأن «الأنا» في علم النفس وفقاً لنظرية فرويد النفسية، هي الأساس في عمل التوازن المنطقي والسليم بين «الهو» و«الأنا العليا»، وبالتالي تكوين شخصية سليمة.
بالطبع لم أكن أتلاعب بالكلمات فقط حين حوّرت الأغنية، فأنا أنا، ولستُ أنت! وهذا يعني أنني شخصية مستقلة، مرت بتحولاتٍ كثيرة، أسرية، وعاطفية، ومجتمعية، وكثيرة، كثيرةٍ سياسية، من التأييد إلى الرمادية إلى المعارضة.
رنيم 2011..
عندما بدأت الثورة السورية في العام 2011، كانت رنيم ابنة الاثنين وعشرين عاماً، في سنتها الجامعية الرابعة، تعيش أغلب أوقاتها في قريتها المتنوّعة طائفياً، ويغلب على سكانها «التصنيف البعثي» بالقوة، مع وجود بعض اليساريين، اللذين واللواتي تعرضوا لإشارات اتهام من المحيط بالهمز واللمز.
حين كانت الصبية العشرينية تحاول أن تفهم الهمز واللمز تجاه أحد أقاربها كانت والدتُها تسكتها: «مالنا علاقة»، قبل أن تتسلل إليها كلمة «الشيوعيين» في سهرةٍ لوالدها مع أصدقائه، وكان الحديث حينها عن رجل ذهب إلى مدينة حمص للتظاهر في الساحة.
وقتذاك أنجزت مشروع الصحافية الصغيرة موادها بنجاح تام، وهي تسمع طرفاً واحداً، وقنوات رسمية تنطق لغةً واحدةً، ليظهر لها أن بشار الأسد هو المُخلّص، مُخلّص الطائفة، ومُخلص البلاد بأسرها من شر ما أسماه بعض محيطها طغياناً على الدولة.
في تلك المرحلة راح الضحايا يتوافدون إلى قريتها من العسكر الفقراء، ليكون أول ضحية قريبها من الدرجة الثانية. كانت الساعة الخامسة صباحاً حين رن هاتف منزلنا، وارتفع صوت القرآن من الجامع لينعى ضحية مريمين الأولى، فقالت الصبية الطائشة: «إن شا الله انبسطت يا بشار الأسد؟»، ليعلو صوت أبيها: «الله أكبر»، وتنهرها والدتها: «اخرسي.. مو إلنا ها الحكي»!
الرئيس نام!
كان ذلك اليوم ثقيلاً، لو سقطت إبرة صغيرة لتردّد رنينُها في قرية يقارب عدد سكانها 5000 آلاف نسمة، حينها كان للموت وهرة بين الناس. يومذاك دخلت في نقاش مع والدي الذي كان يمنعني من مشاهدة قناة «الجزيرة» حصراً، نقاش حول مفهوم تضحية العسكر لأجل رئيس، سألته: «ماذا لو ذهب الأسد؟». حاول المُدرس الذي كان على وشك التقاعد أن يجيبني كطالبة يخاف أن تبوح بما لديها أمام الناس، فيخسر وحيدته إلى الأبد.
يوم سقط نظام بشار الأسد، لم أحذف منشوراتي السابقة عنه، لأنها هي من كانت النواة الأولى لتكوين وعيي
نعم أعترف أنني أيدت بشار الأسد منذ 2011 وحتى 2013، واليوم أسأل نفسي: هل أيدته مقتنعةً يا ترى؟ أم أيدته مرغمةً؟ أم أيدته لأن الجميع كان يُظهر أنه مؤيد مثلاً؟ أو ربما السؤال الأصح: هل كنت أملك الوعي الكافي لتشكيل موقف سياسي في ظل تنشئة أسرية وتربوية ومدرسية واحدة؟ بالطبع لا، أقر وأعترف بخطئي، لكنه الخطأ الذي جعلني أرى الصواب بعينٍ أخرى، ومن خلال الآخر.
استمر نقاشي مع والدي حول شرعية بشار الأسد، وطريقة استمراره في السلطة حتى الثالثة فجراً، ولا يزال في رأسي كثير من الأسئلة، لينهي أبي النقاش قائلاً: «لك بنتي الرئيس نام، شو رأيك تنامي وتخليني نام؟»، فأجبت مستغربةً وبكامل قواي العقلية: «هل يعقل لرئيس أن ينام، وجيشه يُقتل؟». سريعاً علا شخير أبي ربما هروباً من جواب، وربما حزناً على قريبه اليتيم الذي كان قد اضطُرّ أن يتطوع في الجيش.
الرحلة ابتدأت
كل تلك الأسئلة لم تكن عبثية، ويبدو أن الوعي السياسي لرنيم بدأ بالتشكل. وحده السكن الجامعي يجعلك تسمع أشكالاً وألواناً، ويُعلمك ألا تصدق إلا ما تراه وتسمعه.
في طابق الدراسات العليا من الوحدة الخامسة للإناث، وتحديداً في الغرفة 135، عاشت الصحافية الصغيرة التي بدأت رحلتها في الماجستير بين صبايا من الزبداني، ودرعا، والسويداء، لتسمع من صديقاتٍ تقاسمن معاً لقمة الخبز، وتبادلت معهن الملابس، والماكياج، وتُعايش رواياتٍ مختلفة عما يدور في قريتها، فكيف لا تُصدق وقد تعرضت إحدى رفيقات الغرفة للابتزاز من أحد الضباط كي تعرف مصير والدها؟ وكيف لا تصدق وهي تشاهد دموع أخرى حرمها حاجزٌ للجيش من أخيها؟ وكيف لا تصدق وقد رأت حالة إحدى جاراتها في السكن حين عادت من نهار تحقيقٍ منهِكٍ في أحد الفروع الأمنية؟
شيئاً فشيئاً راحت بذور المعارضة تدخل عقل الصبية «ابنة الطائفة العلوية»، وانطلقت في قراءات كثيرة مختلفة عن تاريخ العائلة الحاكمة، كما انخرطت في العمل المدني ضمن «راديو سوريات» (مؤسسة مَوج التنموية لاحقاً) منذ العام 2016، وحتى هذه اللحظة.
في ذلك المكان، وبين أصدقاء وصديقات، زملاء وزميلات، تعلّمت أكثر، وفهمت أكثر، وراحت شخصيتها المستقلة تتشكّل، بعيداً من عادات وأفكار مكررة ومطروحة في قريتها، وعن روايات مبالغ فيها أحياناً، وحقيقية أحياناً كثيرة.
لأجل كل ذلك، يوم سقط نظام بشار الأسد، لم أحذف منشوراتي السابقة عنه، لأنها هي من كانت النواة الأولى لتكوين وعي الصحافية السورية المعارضة لأي نظام استبدادي.
أعتقد أنني لو كنت منذ البداية معارضة للأسد، ولم أرَ بعيني وأسمع بأذني، لم يكن لشخصيتي أن تتكوّن بهذا الشكل، ولم أكن لأستحق هذه الدعوة من «صوت سوري»، لذلك: شكراً لي، وشكراً لصديقاتي في الغرفة 135، وشكراً لـ«مَوج» ومدنيّتها.
♦ رنيم غسان خلوف: صحافية سورية، حاصلة على درجة الماجستير في الإعلام من جامعة دمشق
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0