× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

أحسن وزيرة اقتصاد في العالم

حكاياتنا - ملح 25-06-2020

تهجّرنا من قريتنا مطلع الحرب الحالية إلى حمص، ثم نزحنا من جديد إلى طرطوس. في ذلك اليوم بقي اﻹفطار على الطاولة، حملت معها بقجة واحدةً تاركةً وراءها عفش البيت كله. لم تنس أن تغلق الباب بمفتاح بقي معلّقاً في رقبتها عقوداً طويلة

تعرفونها حق المعرفة، فمعظمكم حظي بوزيرة مثلها، لكن كثيراً منكم ـ على اﻷرجح ـ لم ينتبه إلى هذه الثروة المتحركة في الجوار. هذا طبيعي، ﻷننا جميعاً لا نقّدر ما نملك حتى نفقده.
لم تتخرج هذه الوزيرة في أي جامعة أو مدرسة اقتصادية من أي مكان في العالم. على العكس، قضت حياتها وهي لا تعرف فكّ الحرف عن أخيه. 
لم تكن على زمانها مدارس، وكثيراً ما سألتني أن أطلب لها جارتنا على الهاتف ذي القرص الدوّار. كانت تملك ذاكرةً من أرقام الهواتف تمتد من جارتنا تلك، إلى أختي في العاصمة، إلى عمتي في الجهة الأخرى من اﻷرض. على أن أغرب رقم تحفظه، كان يعود لبيت جدّي حين كان رقم هاتفهم بأربع خانات فقط.
استلمت منصبها الحساس قبل استلام البعث السلطة في سوريا بعام واحد فقط، وبلا حاجة إلى انقلابات أو حركات. 
تتذكر أنها استلمت منصبها من دون مراسم. لا أحد التقط لها صوراً أو سلّمها عهدة. لم يخبرها أحد أن تلك الوزارة هي أهم وزارة في العالم، فمنها ابتداء السعادة التي جعلت لها دولٌ أخرى - بعد عقود - وزارات تصرف عليها المليارات.
كانت في الثامنة عشرة من عمرها حين تزوّجت، بعدها بأقل من شهر أعطاها رئيس الحكومة (الاسم الحركي لزوجها) ثلاث أوراق نقدية من فئة خمس وعشرين ليرة، على كل واحدة منها صورة صبية تجني القطن وترتدي قميصاً أبيض، وقال لها بالحرف: «دبري راسك ما في غير هدول».
في مطلع السبعينيات قرر «رئيس الحكومة» بناء بيت في أرض اشتراها بثمن بخس، فقد كانت أرضاً صخريةً في تل صغير منسي من أراضي قريته. 
وﻷنه لم يكن يملك مالاً كثيراً، استعان بـ«وزيرة الاقتصاد».  وقتها؛ دخلت غرفتهما الوحيدة في بيت حميها، وخرجت بعد دقائق تحمل خمسين قطعة ورقية من فئة الخمس وعشرين ليرة الزرقاء تلك. قدمتها له مشترطةً أن يكون نصف البيت باسمها. وقبل أن يعلن الرجل موقفه أحضرت جدّي شاهداً على العملية، ضحك جدّي ـ والد رئيس الحكومة ـ كثيراً، وقال لرئيس الحكومة: «خرجك، معها حق»، ولم يجد رئيس الحكومة مفرّاً من الموافقة. 
مع بعض الـ«خمسينات» بنية اللون التي كانت في حوزة زوجها، تمكّنا من بناء بيت مؤّلف من غرفتين، وشرفة تتسع لغرفتين أخريتين، ومخزن تحت البيت مكوّن من غرفتين أيضاً لزوم المؤونة.

البرميل الذي أُلقي على البيت لم يهمه وجود رجل نائم متعب من السفر فيه، أو أنّ هناك مفتاحاً معلّقاً في رقبة صاحبة البيت المهجّرة

في تلك الحقبة مارست الوزيرة إلى جانب منصبها مهنة معلّم دهان، وزيّنت بيتها برسوم لطيور وزهور غريبة لن تراها في حياتها.
بعد انتهاء بناء «قصر يلدز» كما سمّته، انتقلت الوزيرة إلى تأمين شؤون القصر. 
كانت مطلع كل شهر تقوم بجولات التبضع وشراء مؤونة الحبوب والسكر والرز، وتوصي رئيس الحكومة بشراء مواد التنظيف، بعد أن تشترط عليه جملة اشتراطات أهمها أن يكون «دوا الغسيل والنيلة شغل حلب».
أوّل الأسبوع تنتظر موعد وصول الخضار والفواكه عند أبي سمير المحتال ـ كما كانت تصفه دائماً، إذ كان يلصق علكة تحت كفة الميزان من جهة أكياس الخضار - فتجلب ما يكفي أسبوعاً. تقرّش أسعار الخضار بالقطارة، توزع الحصص على أيام الأسبوع، وتحرص على عدم تكرار الطبخة ذاتها مرتين. أما البقايا فكانت من نصيب ست دجاجات اشترتها بالدَّين من أختها، وأصبحت تغذّيها بما يصلها من بقايا طعام الجيران أيضاً. حين جاء موعد جلوس الدجاجة اﻷم على بيضها، فتحت مزاداً مع الجيران لبيع الصيصان قبل أن تفقس، ثم دفعت ثمن دجاجاتها.
راقبت بالتوازي موسم الأشجار القليلة المحيطة بمنزلنا، فمتى «لوّح المشمش» صار محظوراً الاقتراب منه في أي دكان، ومتى أعلن عصفور التين حضوره، تحوّلنا جميعاً إلى شجرته ونسينا دعايات أبي سمير. بالطبع كان البطيخ اﻷحمر مستثنى، إذ كان بـ«رخص التراب» وأفضل نوعية لا يتجاوز سعر الكيلو منها ثلاث ليرات.
في الثمانينيات بدأ حصار ثقيل على البلاد، اختفت المحارم والزيوت والسمون والشاي والسكر، فما كان من الوزيرة إلا أن أصدرت قراراً بالتحول إلى زيت الزيتون ومنع زيت القلي. كلّفت رئيس الحكومة بالذهاب إلى أرضه المهملة تحت طائلة حرمانه من الشاي، وبغية عدم وقوفه في صف المحتجين، وتشجيعه، أعطته حصتها من الشاي الذي كان يوزع كل شهر على البطاقة التموينية / البونات، (اﻷخت الأكبر للبطاقة الذكية). أما نحن فقد حوّلتنا إلى الزوفا والمليسة مع كأس شاي واحد كل يومين.
لم ينته الحصار بعد عقد، ولا اثنين، والموارد شحّت بالتدريج. كاد السكر أن ينقطع، والشاي اختفى إلا ما كان يرد عبر طرقات التهريب التي كانت وزيرتنا ترفضها رفضاً قاطعاً. لم تعد تستخدم السمنة، وحين كانت تستلم حصتها من المؤسسة الاستهلاكية، تبادر إلى إبدالها بزيت الزيتون من أي راغب بها، قائلةً: «حدا عندو زيت زيتون وبياكل هالوسخ؟».
في هذه الرحلة أنجبت الوزيرة نصف دزينة من اﻷولاد. من حسن حظي أنني كنت البكر، فقد كانت تشتري لي ثياباً كل نصف عام مرّة، وإلا لكانت ثيابي «مدورّة» مثل ثياب إخوتي. أحياناً كانت تخترع ثياباً للذكور من مشتقات ثيابنا الملوّنة، وحين أنظر اليوم إلى صورنا القليلة آنذاك أضحك ملء قلبي من هيئاتنا.
تهجّرنا من قريتنا مطلع الحرب الحالية إلى حمص، ثم نزحنا من جديد إلى طرطوس. في ذلك اليوم بقي اﻹفطار على الطاولة، حملت معها بقجة واحدةً تاركةً وراءها عفش البيت كله، وهرعنا على عجل إلى السوزوكي التي اشترتها لرئيس الحكومة من بيعها للفواكه المجففة سنوات طويلة. لم تنس أن تغلق الباب بمفتاح بقي معلّقاً في رقبتها عقوداً طويلة. 
البرميل الذي أُلقي على البيت في ما بعد، لم يهمه وجود رجل نائم متعب من السفر فيه، كانت تسمّيه دائماً رئيس الحكومة، أو أنّ هناك مفتاحاً معلّقاً في رقبة صاحبة البيت.
لم تتوقف وزيرتي كثيراً أمام مآسيها، بعد أن فقدت رئيس الحكومة، ورحّلت اثنين من إخوتي إلى ألمانيا. افتتحت محلاً صغيراً تصنع فيه الفواكه المجففة وتبيعها لمحلات الأكل الصحي، تضحك وهي تغالب دمعتها العصيّة. لم أرها في خمسين عاماً قضيتها معها تبكي.
تلك الوزيرة، التي كانت تتقاضى أدنى أجر في العالم، أمي. 
أمّي التي ودّعتها، لأدخل الخمسين من عمري وحيدة، وحيدة تماماً.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها