أمل بدر
الرًسم: لوحة للرسام تير بورش تُخلّد المعاهدة الإسبانية-الهولنديّة التي كانت جزءاً أساسيّاً من «صلح وستفاليا» / اللوحة معروضة حالياً في المعرض الوطني بلندن - معلومات إضافية في نهاية المقال
في السنوات الأخيرة، تكرّست في الخطاب العام في سوريا مقولة تتكرّر كثيراً مفادُها أن «العلمانية تساوي الإلحاد»، وأن «الليبرالية نقيضٌ للدين». هذه التصورات لا تقتصر على عامة الناس فحسب، بل تتردد في أوساط سياسيين ومثقفين، من المحافظين والليبراليين على حد سواء، وكأن الإيمان والعقلانية لا يجتمعان.
من جهة يرى المحافظون أن كل محاولة لفصل الدين عن الدولة ما هي إلا مؤامرة غربية لخلخلة المجتمع واستهداف «الهوية المجتمعية الغالبة في سوريا»، ومن جهة أخرى يرى الليبراليون واليساريون أن أي محاولة لفرض خطاب ديني في السياسة تصب في مصلحة احتكار الإسلاميين للسلطة.
هذه التصوّرات تحتاج إلى تفكيك، لا بغرض مهاجمتها، بل لفهم تاريخها ومصادرها وفرص تجاوزها.
ما يغيب عن هذا النقاش أن كثيراً من المفكرين الليبراليين الأوائل لم يكونوا علمانيين بالمعنى الإقصائي، بل كانوا مؤمنين بعمق. توماس باين، أحد أبرز آباء الثورة الأميركية، والمطالبين بالديمقراطية الليبرالية، لم يكن ملحداً، بل مؤمناً يرى في الله خالقًا عظيماً، وفي الضمير الإنساني بوابةً لفهم الخير والشر. تحرك بدافع أخلاقي عميق لمواجهة الظلم الاجتماعي، وكَتَبَ «حقوق الإنسان» بروح تنهل من إرث ديني يتقاطع فيه الإيمان بالعدالة مع حس المسؤولية الفردية. وهو بذلك لا يختلف عن كثير من المفكرين الذين ألهموا الثورات السياسية والاجتماعية في أوروبا وأميركا وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، انطلقوا من أسئلة دينية عميقة، لكنهم لم يطالبوا بدولة دينية. بل طالبوا، بدلاً من ذلك، بدولة لا تحتكر الحقيقة باسم الله، ولا تستعمل الدين وسيلةَ قمع.
درس من وستفاليا
لفكرة فصل الدين عن السياسة جذور أخرى، أغلبها سُطر في مراحل متأخرة لتبرير إبعاد الأخلاق الدينية عن السياسة بدلاً من إبعاد التعصب الديني عن السياسة.
فلنأخذ مثالاً «صلح وستفاليا» 1648، (بالألمانية: Westfälischer Friede) يُعد هذا الصلح بمثابة أول اتفاقية دبلوماسية في التاريخ الحديث، وقد أنهى حرب الثلاثين عاماً في أوروبا. (قد يُذكر أيضاً باسم «ويستفاليا» وهي هي تهجئة مأخوذة عن النطق الإنكليزي (Westphalia).
كثيراً ما يُشار إلى «صلح وستفاليا» على أنه لحظة التأسيس للدولة الحديثة، أو للعلمانية السياسية التي تفصل بين الدين والدولة. لكن قراءة أكثر تأنياً لما حدث تُظهر صورة مختلفة.
ما جرى في «وستفاليا» لم يكن طرداً للدين من السياسة، بل محاولة عقلانية لإعادة تأطير الدين في سياق صراعات دموية استنزفت أوروبا على مدى ثلاثين عاماً. لم يكن الهدف إنهاء الإيمان، بل إنهاء الحرب باسمه. الاتفاق لم يُلغِ الدين من الحياة العامة، بل وضع حدوداً لتحكم السلطة بالدين.
هنا تكمن النقطة الجوهرية: السياسة لا تحتاج أن تكون بلا روح، لكنها تحتاج ألا تُختزل في تفسيرٍ ديني واحد. لا العلمانية التي وُلدت من رحم التجربة الأوروبية كانت ملحدة بالضرورة، ولا الليبرالية استهدفت الدين، بل حاولت أن تحرره من أن يكون أداة في يد السلطة.
درس من التاريخ العربي والإسلامي
لكن أوروبا ليست المرجعية الوحيدة. ثمة في تراثنا العربي والإسلامي نماذج مشرقة لما يمكن أن يكون عليه الدين حين يتحرر من السلطان.
النموذج الأموي التاريخي، الذي يَستحضره البعض اليوم بوصفه مرجعية سياسية، كان قائماً على توظيف الدين في خدمة السلطة. لكنه لم يكن المعيار الوحيد في التراث الإسلامي، بل وُوجه منذ بداياته بنقد فكري وأخلاقي من داخل المنظومة الإسلامية نفسها. وإذا كانت الخطابات السياسية الجديدة في سوريا تستلهم هذا النموذج، فعليها أن تدرك أن أمجاد الإسلام لا تُستعاد من خلال احتكار الدين، بل من خلال إطلاق حيويته وتعدده، وفتح باب الاجتهاد من جديد أمام ضمير الأمة، لا قصره على لسان الحاكم.
كيف نُعيد بناء الدولة دون أن نُكرس من جديد علاقة ملتبسة بين السلطة والدين؟ كيف نحفظ للدين مكانته الأخلاقية دون أن يُصبح أداةً لاحتكار السلطة؟
كثير من فقهاء المسلمين في القرون الأولى، كأبي حنيفة النعمان وسعيد بن المسيب وجعفر الصادق، وعلى اختلافهم في قضايا الفقه، وقفوا في وجه الحُكّام، ورفضوا تبرير الظلم باسم الدين، ودفعوا أثماناً فادحةً لمواقفهم. هؤلاء لم يُنكروا مكانة الدين، لكنهم أنكروا أن يُستخدم الدين ذريعةً للتسلط. كان لديهم من الحكمة ما جعلهم يدركون أن الدعوة الحسنة وحقن الدماء ودرء المفاسد تأخذ الأولوية في بناء الدولة على أي اعتبارات أخرى.
لو عدنا إلى «وثيقة المدينة» و«صلح الحديبية» لوجدنا نماذج أخرى من فهم المواطنة لا من خارج الفكر الديني، ولكن من فهم مقاصدي للدين بوصفه قوة أخلاقية للتعايش والسلام والعدل. نماذج تتطلب قراءتها في سياقها التاريخي والسياسي، بدل إسقاطها بدون نقد تاريخي على عالم اليوم.
صلح الحديبية، مثلاً، لم يكن مجرد هدنة، بل وثيقة اعتراف بالتعدد الديني والحقوق المدنية في دولة ناشئة. لم يُقصِ المختلفين دينياً، وإنّما دمجهم ضمن ميثاق سياسي. كذلك فعلت وثيقة المدينة (قد تُسمى أيضاً «صحيفة المدينة»)، التي صاغت مفهوماً للمواطنة يتجاوز الانتماء الديني إلى الشراكة السياسية. هذه النماذج تؤكد أن الفصل بين الدين والسلطة لا يعني إقصاء الدين، بل حمايته من التوظيف السلطوي.
في الراهن السوري
في لحظة ما بعد الحرب، لا تكفي «إعادة الإعمار المادي» دون التفكير في إعادة الإعمار الرمزي والقيمي. كيف نُعيد بناء الدولة دون أن نُكرس من جديد علاقة ملتبسة بين السلطة والدين؟ كيف نحفظ للدين مكانته الأخلاقية دون أن يُصبح أداةً لاحتكار السلطة؟
هذا النقاش ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة ملحّة في سوريا ما بعد الحرب. ففي زمن ما بعد الحرب، تتشكل ملامح جديدة للحكم، وتُعاد كتابة سرديات الوطنية والانتماء. لكن هذه السرديات غالباً ما تأتي محمولة على لغة دينية تحاول احتكار الحقيقة في طياتها، ولا تترك المجال لاعتبار الدين مرجعية ثقافية وأخلاقية بدلاً من كونه أداة تشريعية سلطوية. هنا تماماً يكمن الخطر. فما نحتاجه ليس طرد الدين من المجال العام، بل تحريره من الانغلاق. أن نعيد للخطاب الديني إنسانيته، أن نستدعي الدين بوصفه قوة أخلاقية، لا ذراعاً تُشرعن القوانين لصالح السلطة. أن نمنحه الحرية ليقول كلمة الحق في وجه السلطان، لا أن يتحوّل إلى ناطق رسمي باسمه.
في تجربة «وستفاليا»، هناك ما يلهمنا: إنهاء الحرب الدينية والصراع الطائفي لا يعني بالضرورة نهاية الدين، بل قد يكون مدخلاً إلى تجديده، والحل لا يكون في فرض قراءة واحدة، بل في التعايش مع تعدد التأويلات. والحفاظ على الدولة لا يكون من خلال اختزالها في طائفة أو مذهب، بل بتحصينها من التماهي مع أي تأويل أحادي.
ثمة في سوريا اليوم نخب ثقافية تتنافس للوصول إلى مراكز ومفاتيح السلطة من خلال تأجيج الخطاب الديني، وهناك في المقابل من يطالب بفصل كامل للدين عن الدولة متناسياً حساسية المرحلة وضرورة التعامل بحذر مع مشاعر الناس الخارجة من صراع صُوِّر لها عبر عقود عدة على أنه صراع طائفي، تماماً مثلما استخدمت الطائفية في تأجيج الحرب الطويلة التي انتهت في صلح «وستفاليا».
لم يصل الخصوم وقتذاك إلى الصلح عن طريق العلمانية كما يخيل للبعض (الدعوات للعلمانية جاءت متأخرة نحو قرنين)، بل وصلوا إلى الصلح عندما أدركوا أن الدين يوفر دافعاً للسلام بعكس الطائفية التي وفرت محركاً للنزاع والحرب والدمار. بمعنى آخر، نحن بحاجة إلى علمانية أخلاقية لا تعادي الدين، بل توفر حاضنة لقيمه الإنسانية، إلى تصور سياسي يقدّر مكانة الدين في الوجدان العام، دون أن يسمح له بأن يُستعمل أداةً للهيمنة. إلى دولة لا تتحدث باسم الدين، بل تضمن حرية المؤمنين وغير المؤمنين في استخلاص الدروس والعبر منه.
نحو خيال سياسي جديد
السؤال الواجب الطرح في سوريا اليوم ليس «هل نريد دولة علمانية أم دينية؟»، بل: «كيف نبني دولة لا تُختزل في قراءة واحدة للحق؟»، دولة قادرة على احتضان الاختلاف دون خوف، وعلى الاحتكام للقانون دون تسييس العقيدة. في هذا الإطار لا يغدو الدين عبئاً على السياسة، بل شريكاً لها وناقداً في آن: قوة تدفع نحو العدالة، وتذكر بما هو أسمى من المصلحة الآنية. وبذلك، يصبح صوت الضمير أقوى من صوت الغلبة، وتصبح الأخلاق الدينية في السياسة ممكنة دون الحاجة إلى هيمنتها على الحيز السياسي.
في «وستفاليا»، هناك ما يلهمنا: إنهاء الحرب الدينية والصراع الطائفي لا يعني بالضرورة نهاية الدين، بل قد يكون مدخلاً إلى تجديده، والحل لا يكون في فرض قراءة واحدة، بل في التعايش مع تعدد التأويلات
ليس من الضروري أن نستورد تجارب الغرب كما هي، ولا أن نقلد الماضي بشكل أعمى، لكن علينا أن نطور وعينا التاريخي، وأن نقرأ في «وستفاليا» درساً لا عن فصل الدين عن الدولة، بل عن كيف يمكن للدين أن يبقى حياً دون أن يصبح مطية للسلطان، وعن كيف يمكن للسياسة أن تكون عادلة دون أن تنفي المنطلق الأخلاقي للأديان.
ربما توجب أن ننطلق في فهمنا للعلمانية من قيم ذات مرجعيات ثقافية مقبولة مجتمعياً؛ دون أن ننجر إلى التفاسير الجامدة لمسار التاريخ. وهنا على مثقفينا أن يكفوا عن اللهاث وراء الشارع المتوتر بعد حرب ضروس بذريعة العدالة والانتقام، وأن يشرعوا في تقديم حلول عملية وواقعية للشروخ المجتمعية القائمة.
ما أحوجنا اليوم لنفهم أن ما أهدر من دماء السوريين والسوريات لا يقل عما أهدرته «حرب الثلاثين عاماً» في أوربا باسم الدين. وربما توجب على المثقفين أن ينطلقوا من حيث بدأت عمليات الصلح الكبرى في التاريخ، بدءاً من «صلح الحديبية» الذي أقر للجميع الحق بالمواطنة في الدولة الناشئة (سوى حفنة من كبار المجرمين) وليس انتهاءً بـ«وستفاليا»، وأن ننظر للدين على أنه منبع الرحمة والسلام وحقوق الإنسان والعدل وحماية التنوع في المجتمع.
في لحظة بناء ما بعد الصراع، نحن بحاجة إلى أن تطلق نخبنا هذا النوع من الخيال السياسي، لا إلى صراعات جديدة لاحتكار الحقيقة. نحتاج إلى فكر سياسي يؤسس لاحترام العقائد والمسؤولية المشتركة لبناء الدولة. فالدين لا يختفي إذا لم يحكم. بل قد يزدهر إذا تحرر من عبء السلطة، وإذا عاد إلى مجاله الطبيعي: ملهِماً للأخلاق، نصيراً للمظلومين، لا وصيّاً على العقول.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0