جولي شابو - كاتبة ضيفة
الصورة: من أسواق القامشلي
كلما سرتُ في شوارع القامشلي، شعرت أنني أتنقل بين طبقات من الزمن. هذا المكان الذي ولدت فيه، حيث ترسخت تفاصيل حياتي الأولى، لم يعد هو نفسه الذي عرفته في طفولتي. ربما لم يتغير المكان بقدر ما تغيرت أنا. أو ربما تغيرت نظرتي إليه بفعل الأحداث والتجارب التي صقلتني، وجعلتني أراه من زاوية أخرى، زاوية لم تكن واضحة لي قبل سنوات.
كبرتُ في بيئة متنوعة تتداخل فيها اللغات والثقافات، وتتقاطع الحكايات عند كل زاوية من زوايا السوق القديم، «سوق عزرا»، الذي يجمع بين الكرد والعرب، والسريان والأرمن، وحتى اليهود الذين يعتبر هذا السوق أحد أملاكهم.
كان من الطبيعي أن أسمع العربية، والسريانية، والكردية، والأرمنية في يوم واحد، كأنها سيمفونية يومية تعزفها المدينة. كنت أظن أن هذا التنوع حصنٌ للمدينة، لكن يبدو أنه كان أيضاً ساحة لصراعات خفية، بعضها ظهر إلى العلن مع مرور السنوات.
إحدى العادات التي كنت أراها رمزاً لهذا التنوع كانت «الزواج المختلط» بين العائلات المختلفة، إذ كان من الشائع أن يتزوج شاب عربي فتاةً كردية، أو سريانيّة شابّاً أرمنياً، مما كان يعزز التعايش بين المكونات المختلفة. كانت الأعراس في القامشلي تجسد هذا التنوع، فتمتزج الأغاني والدبكات من مختلف الثقافات في ليلة واحدة، في جو احتفالي يعكس روح المدينة الفريدة. كنت أستمتع بمراقبة الجدات وهن يزغردن، فيما يجتمع الشباب في حلقات الدبكة، يخطون بخطوات موحدة كأنهم يؤكدون أن هذا المكان يجمعهم رغم كل شيء.
في رحلاتي إلى مدن أخرى داخل سوريا، كنت أبحث عن شيء يشبه القامشلي، عن زاوية مقهى تذكرني بالمقهى الذي اعتدت الجلوس فيه، عن أصوات مألوفة وسط الضجيج الغريب
مع اشتداد الأحداث في سوريا، أصبحت علاقتي بالمكان أكثر تعقيداً. كنت أسأل نفسي: هل لا تزال القامشلي «بيتي»؟ أم أن النزاعات، والانقسامات، والهجرة الواسعة لأصدقائي وأفراد من عائلتي خلقت فجوة بيني وبينها؟ راحت الوجوه التي ألِفتها تتناقص، والمحال التي كنت أرتادها تغلق أبوابها، والشوارع التي كانت تعج بالحياة صارت أكثر صمتاً.
لكن رغم كل ذلك، ما زلت أشعر بأن شيئاً في القامشلي يشدّني إليها، حتى لو كنت أعيش خارجها لأوقات طويلة. ربما هو الحنين إلى طفولتي التي لم تعد موجودة، أو إلى الإحساس بالأمان الذي كان يغمُرني قبل أن تتحول البلاد إلى ساحة صراع. أحياناً أفكر: هل نحن من ينتمي إلى المكان، أم أن المكان هو من يحتوينا ويشكّل هويتنا حتى وإن ابتعدنا؟
من العلامات التي تميّز القامشلي أيضاً اللهجة الجزراوية، وهي لهجة مميزة عن بقية لهجات سوريا، إذ تتأثر باللغات والثقافات المتعددة الحاضرة في المنطقة. تمتاز بنطق بعض الأحرف بطريقة مختلفة، مثل قلب الهمزة إلى قاف في بعض الكلمات، وإضافة بعض التعابير الخاصة التي لا تُسمع في باقي المدن السورية. مثال على ذلك، كلمة «أعووو» التي تشير إلى الدهشة، كنت أستمتع بمراقبة كبار السن وهم يتحدثون بهذه اللهجة التي تحمل في طياتها تاريخ المكان وتنوعه، ولهذا كلما سمعتها في مدينة اللاذقية مكان دراستي، كنت أشعر وكأنني عدت إلى القامشلي ولو للحظات.
في رحلاتي إلى مدن أخرى داخل سوريا، كنت أبحث عن شيء يشبه القامشلي، عن زاوية مقهى تذكرني بالمقهى الذي اعتدت الجلوس فيه، عن أصوات مألوفة وسط الضجيج الغريب، عن لمسة دفء تشبه دفء الشوارع التي عشت فيها. لكنني لم أجدها أبداً.
كل المدن التي مررت بها كانت ناقصة، كأن قطعة أساسية منها مفقودة، أو ربما كانت القطعة المفقودة هي أنا نفسي، المتأرجحة بين المكان الذي نشأت فيه والمكان الذي قد أجد فيه مستقبلي.
اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أدرك أن علاقتي بالقامشلي ليست علاقة بمكان فحسب، بل علاقة هوية، وذاكرة، وانتماء يتجاوز الجغرافيا. قد أبتعد عنها، قد أعود إليها، لكنني لن أنسلخ عنها أبداً. هي ليست مجرد مدينة، إنها جزء من تكويني، سواء كنت فيها أو لا.
قد تتغير القامشلي، وقد أتغير أنا أيضاً، لكن شيئاً في داخلي سيظل دائمًا يبحث عنها، عن ألوانها، عن روائح أفرانها التي تنضح برائحة الخبز الطازج، عن لهجات سكانها التي تحكي قصة التنوع العميق، وعن ذكريات الأيام التي كنت فيها مجرد طفلة تجري في شوارعها من دون أن تفكر كثيراً في معنى الانتماء، لأنه كان جزءاً طبيعياً من حياتها اليومية. اليوم، أُدرك أن الانتماء ليس مجرد شعور، بل هو تاريخ محفور في الوجدان، وصدى لا يمكن إسكاتُه مهما بعدت المسافات.
♦ جولي شابو: مدوّنة سوريّة - القامشلي
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0