الصورة: (وكالة شينحوا)
في ريف الحسكة، أقصى الجزيرة السورية التي كانت تُسمى «سلّة غذاء سوريا»، تحوّل كثير من الحقول الخضراء الممتدة إلى أراضٍ متشققة، يكسوها الغبار أكثر من القمح والقطن والعدس.
سنوات الجفاف المتلاحقة، منذ 2007 وصولًا إلى المواسم الأخيرة، أفرغت الأرض من خصوبتها، والقرى من شبابها. لم يعد النزوح أو الهجرة قراراً مرتبطاً بالحرب أو القصف فقط، بل صار أيضاً نتيجة مباشرة لتغيّر المناخ وفشل السياسات الزراعية.
في حديثه مع «صوت سوري» يقول الفلاح شيروان العلي:«الأرض لم تعد تعطينا ما يكفي»، ويعلل ذلك بارتفاع أسعار «السماد والبذار والمبيدات الحشرية، إضافة إلى المازوت رغم أنه سلعة مدعومة من الإدارة الذاتية».
يُخرج خالد دفتراً صغيراً من جيبه، دون عليه الكثير من الأرقام والمُلاحظات، ويتابع «كان من المفترض أن أتسلم دفعتين من المازوت المخصص للزراعة، لكنني اشتريت ثلاث دفعات بسعر حر، ولم أحصل بعد على حصتي من المحروقات».
الغالبية العظمى من الفلاحين والمزارعين اشتكت خلال السنة الماضية من تأخر تسليم الإدارة الذاتية للحصص المخصصة من مادة المازوت. ورغم المحاولات؛ لم يستطع معد التقرير الحصول على جواب واضح من الجهات المسؤولة عن أسباب ذلك، باستثناء بالقول: «ظروف الاستخراج، وكثرة المساحات المزروعة».
مساحات مزروعة ومردود ضعيف
وفق إحصاءات متقاطعة بين الإدارة الذاتية، والنظام السوري السابق قبل سقوطه، بلغت مساحة الأراضي البعلية المزروعة بمحصول القمح 397850 هكتاراً، أما الشعير فـ 330720 هكتاراً، بمردود يكاد يكون صفريّاً بسبب الجفاف وندرة الأمطار. في حين بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح المروي قرابة 96650 هكتاراً، لم ينتج عنها أكثر من 145 ألف طن من القمح، مقابل زراعة قرابة 19800 هكتار من الشعير المروي، أعطت قرابة 27 ألف طن.
تواصل «صوت سوري» مع العديد من المزارعين والخبراء الزراعيين ممن أجمعوا خلال جلسة مركزة مصغرة على أن السبب المباشر للوضع الزراعي هو «انعدام الهطول المطري، والظروف المناخية السيئة، وارتفاع درجات الحرارة قبل بدء موسم الحصاد، خاصة خلال شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل الماضيين».
«حتى لو توقفت الحرب، لن نتمكن من العيش في أرض جافة دون دعم.. ما نحصده لا يغطي تكاليف الموسم»
يُضاف إلى تلك الأسباب «قلة كميات المحروقات المخصصة للري التي استلمها المزارعون»، وفق ما أكده المزارع مروان العلي من قرى المالكية، مضيفاً «زرعت هذا العام 50 دونماً، بينما استلمت 220 ليتراً فقط بسعر 1050 للتر الواحد، وهو ما يكفيني 4 أيام فقط. انتظرت الدفعة الثانية ولم تصل، اضطررت لشراء اللتر بمبلغ 5540 ليرة، وهي مصاريف وأعباء إضافية، الموسم الزراعي انتهى ولم أتسلم الدفعة الأخيرة».
لا استقرار في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، ولا أسعار موحدة في عموم مناطق الشمال الشرقي، فيما تُكلف زراعة الدونم الواحد من محصول القمح نحو 1000 دولار في بعض الأحيان والمناطق، متضمنة سعر البذار، والحراثة، والمبيدات الحشرية والأسمدة.
القطن لم يسلم أيضاً
المحصول الاستراتيجي الثاني هو القطن الذي لم يسلم أيضاً. تعرض لأضرار بالغة، بسبب فقدان الكهرباء اللازمة لتشغيل الآبار الزراعية، وقلة المازوت لمشاريع الرّي المعتمدة على الوقود الأحفوري، وجفاف الأنهار والينابيع التي كان يعتمد عليها كثير من زارعي القطن.
وفقاً لمصادر عديدة تقلصت زراعة القطن بنسبة تجاوزت 75%، ومن تمكن من زراعته؛ اعتمد على مشاريع ألواح الطاقة الشمسية، وهي الأخرى تتجاوز تكلفتها أحياناً 15 ألف دولار وفقاً لحجم حصان غطاسات الماء، والكميات المزروعة.
الوجه المرعب للأزمة
يستعد دلشاد تتر من ريف عامود أستعد للسفر إلى إقليم كوردستان العراق، لأن «السياسات الزراعية مجرد "تخبيصات"، يرافقها ضعف بالخدمات، وغلاء أسعار الإنتاج والزراعة. لم أعد أرى مستقبلي هنا».
ويضيف «حتى لو توقفت الحرب، وجاء الاستقرار، لن نتمكن من العيش في أرض جافة دون دعم، مع أسعار جنونية للوقود والسماد. ما نحصده لا يغطي تكاليف الموسم».
يضحك بحسرة طويلاً ثم يتابع «الوقود صار أغلى من قيمة المحصول نفسه، وأغلب الشباب في القرية يفكرون بالهجرة. نبحث عن عمل في المدن أو حتى خارج سوريا لنؤمّن مستقبل أولادنا».
يقف أبو زريا الكوردي (كما رغب أن يُسمي نفسه)، على إحدى تلال قريته شرقي القامشلي، كمن يترقب زيارة أحدهم. يقول لصوت سوري: «صحيح أن الحرب هي السبب الأساسي لهجرة أبنائي الخمسة؛ لكن ألم تنته الحرب! لماذا تستمر موجة الهجرة؟».
يُضيف: «الزراعة التي كُنا نعتمد عليها؛ لا تعطي اليوم ما يكفي، وبعد أن هدأت الحرب نسبياً، لم نجد أي فرصة عمل أخرى. صدقوني لو وجدنا عملاً غير الزراعة، أو ضمن مشاريع مدعومة، ولو كان هناك استقرار وخدمات أساسية، لما فكرنا في الهجرة. نحن نحب البقاء لكن الظروف تجبرنا».
..والنساء آخر من يُغادر
تقول ربيعة زرفو من أهالي الحسكة لصوت سوري: «أنا أرملة، وأشقائي كلهم هاجروا، أبنائي تركوني وحيدة برفقة ابنتي وشقيقها الصغير».
تضيف بحسرة: «محصولنا الزراعي غير كاف، والمازوت قليل، أطلب المساعدة من الجيران والأقارب لزراعة بضع دونمات تركها ليّ زوجي الراحل. حالياً أفكر ببيعها والالتحاق بأبنائي في (إقليم) كوردستان العراق. الجميع يعيش هذه الأزمة من كورد وعرب وسريان، كُلنا ندفع مدخراتنا لزراعة الأرض، ونخسر فيها، فنضطر لمغادرة قرانا».
السياسات تُكمل الجفاف!
يقول المهندس الزراعي والأكاديمي مروان الخليل إن: «المسؤولية لا تقع على المناخ وحده؛ فمع غياب سياسات زراعية بديلة، وتردي الخدمات، وتذبذب أسعار الوقود، يجد المزارعون أنفسهم محاصرين بين الطبيعة والسياسة. المسؤولون في الإدارة الذاتية يقرّون بالأزمة، لكنهم يربطونها بالعقوبات الدولية وقلة الموارد».
يضيف: «كُنت أعمل مع منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة مثل الفاو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وحاولت إطلاق مبادرات لدعم الزراعة، لكنها تبقى محدودة أمام حجم الكارثة، فالمشكلة لم تعد فقط في قلة المياه، بل في غياب إدارة مستدامة، وتراجع الثقة بين المزارعين والسلطات».
«الجميع يعيش هذه الأزمة من كورد وعرب وسريان، كُلنا ندفع مدخراتنا لزراعة الأرض، ونخسر فيها، فنضطر لمغادرة قرانا»
يختتم الخليل حديثه موضحاً أن التغير المناخي ترك أثره المباشر على المنطقة، فمع تراجع معدلات الأمطار وانخفاض منسوب المياه الجوفية، باتت الحسكة تواجه موجات جفاف متتالية غير مسبوقة. ويحذّر من أنّ استمرار هذا الوضع قد يقود إلى تصحر واسع وهجرة جماعية من الريف، تُهدد الأمن الغذائي وتُعيد تشكيل البنية السكانية في المنطقة جذرياً.
يقول مصدر مطلع على مشاريع هيئات الزراعة والاقتصاد في الإدارة الذاتية، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه لأسباب خاصة، إنهم وضعوا «مشاريع وبرامج تعويض المزارعين عبر دعم جزئي للبذار والديزل في الموسم الصيفي والشتوي، ومنح ألواح طاقة بالتقسيط وقروض للفلاحين». هي الوعود نفسها التي وصفها المزارع شيروان العلي بالـ «متكررة والمستهلكة دون أيّ تنفيذ».
الأمل.. يتلاشى
لم يكن الخبز والقمح بالنسبة للكورد في سوريا، مجرد مكونين غذائيين لإشباع جوع أبنائهم؛ بل جزءاً من فعل المقاومة التي عرفت بها الأوساط الشعبية الريفية والحضرية الكوردية في سوريا.
خلال الحديث مع كثير من أبناء القرى، يبدو الرابط المشترك المقارنة بين ماضٍ مزدهر، وواقع حالي خلق كتلاً من الفقر والحاجة والهجرة، وخلاصة مضامين حديثهم تُوجز بأن الزراعة ليست سوى مرآة تعكس فيها السياسات الحوكمية المركزية والمحلية، وهذه بمجملها تنتج هدراً للكرامات والعيش المحترم.