× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

التجربة الجزائرية: 1- نظرة على العُشرية السوداء

عقل بارد - شعوب وحروب 28-07-2020

كيف انتهت حروب ونزاعات شبيهة بالحالة السورية؟ وكيف عبرت بعض الشعوب من الحرب إلى السلم؟ نستعرض في هذا الإطار عدداً من التجارب، ونتوقف بدءاً من هذه الحلقة مع العشرية السوداء في الجزائر

خمسة عشر عاماً مضت على انطلاق مشروع المصالحة الوطنية في الجزائر، سبقها عقدّ كامل من أعمال العنف والعنف المضاد بين السلطة والجماعات الإسلامية المسلّحة، جرت فيه أهوال من المجازر والخراب، وانتهى في نهاية المطاف بأن خضع الجميع لمنطق المصالحة والمسامحة والعدالة. وهو المنطق الذي يحكم نهايات كثير من النزاعات والحروب المشابهة. 

جذور اﻷزمة في الجزائر
بعد أن دفعت أكثر من مليون شهيد نالت الجزائر استقلالها في العام 1962. ومثل غيرها من «الجمهوريات» العربية، حكمها العسكر بعد الاستقلال عبر حزب واحد (حزب جبهة التحرير)، الذي شكل جهاز الدولة الحزبي والسياسي والاقتصادي واﻷمني، وهو ما يشابه الحالة السورية في ظل حكم البعث.
في تشرين اﻷول من العام 1988 شهدت البلاد احتجاجات واسعة تطالب بفتح الحياة السياسية للتعددية وإنهاء حقبة حكم الحزب الواحد، فكانت هذه الاحتجاجات أول تعبير حقيقي عن عمق اﻷزمة في قلب الدولة الوطنية بعد الاستقلال. 
اتسع نطاق التظاهر ليشمل غالبية البلاد، بمطالب واضحة، أفضت بعد عام واحد إلى إصدار دستور جديد أُقرّ فيه مبدأ التعددية الحزبية، وفتح الحياة السياسية العامة وإنهاء حقبة حكم الحزب الواحد، ثم الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية حرّة للمرة اﻷولى منذ الاستقلال. وأجريت الانتخابات في كانون اﻷول 1991.
أفضت مرحلة التحول السياسي بعد العام 1988 إلى انفلاتات متتالية في الوضع العام للبلاد، ولحقتها أزمة اقتصادية واجتماعية نجمت عن تدني أسعار النفط وظهور أزمة محروقات مع مديونية ثقيلة، وشهدت البلاد أزمة أمنية كادت تذهب بالدولة. كما كانت التعددية السياسية غير منتظمة، نجم عنها انفتاح سياسي وإعلامي وجماهيري افتقد تقاليد الممارسة السياسية الحقيقية وثقافة الاختلاف. (يبدو هذا أمراً طبيعياً في بلد حكمه حزب واحد لعقود). تأسست عشرات اﻷحزاب والنوادي والهيئات، كان أبرزها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وجبهة القوى الاشتراكية.
 ورغم أن دستور 1989 يحظر تشكيل الأحزاب على أساس ديني أو طائفي أو قومي، فإن ذلك لم يمنع ظهور تلك اﻷحزاب وبقوة في الشارع الجزائري الذي مالت شريحة منه إلى التيارات الإسلامية، في ما يراه البعض رد فعل على ممارسات السلطة وفسادها وقمعها الذي طال الجميع، وأسفر عن ظهور طبقة حاكمة تمتلك وتتمتع بمعظم مقدرات البلاد. 
حصلت الجبهة اﻹسلامية للإنقاذ على 188 مقعداً من مجموع 340 مقعداً في الدور الأول لانتخابات 26 كانون اﻷول 1991، وكان متوقعاً أن تحصد البقية الباقية من المقاعد في الدور الثاني، وتقوم بتشكيل حكومة بمفردها، تمهيداً لطرح الدستور للنقاش أو التعديل، وهو ما ظهر في تصريحات قادة الجبهة اﻹسلامية نفسها.

تحرّك الجيش

أمام المد المتعاظم للإسلاميين، وجد النظام الجزائري ـ اﻷمني والعسكري ـ نفسه أمام مأزق بنيوي عميق، فالتهديد الذي شكله اﻹسلاميون ألقى بظلاله على الهوية الجمهورية، وعلى مراكز القوى داخل الدولة نفسها حيث تعشش شبكات متجذّرة في الفساد وسرقة المال العام والمحسوبيات وغيرها. دفع هذا كله الجيش الجزائري، ومن ورائه الدولة العميقة، نحو التحرك إلى الواجهة وإيقاف المسار الانتخابي بعد إعلان فوز الجبهة اﻹسلامية للإنقاذ في الدور اﻷول من الانتخابات التشريعية. 
اتخذ تدخل الجيش طابعاً مغلّفاً بالقانون، فقام رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد بحل البرلمان، وبعدها بأيام أعلن استقالته، ليتولى إدارة شؤون الدولة «المجلس اﻷعلى للدولة» الذي اتخذ شكل مجلس رئاسي جماعي. وهو شكل ابتدعه المجلس اﻷعلى للأمن، الذي هو في اﻷصل هيئة استشارية يرأسها رئيس الجمهورية، وتتشكل من عضوية رئيس الحكومة ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية والاقتصاد والعدل ورئيس أركان الجيش الشعبي الوطني، وليس من صلاحياتها اتخاذ قرارات مصيرية في غياب رئيسها الذي أزيح من المشهد السياسي عبر استقالة صورية.
نجمت عن هذا الترتيب «القانوني» للهيئات الجديدة حالة استقطاب قوية داخل الطبقة السياسية الحاكمة بين مؤيد ومعارض؛ فالنخب ذات التوجهات العلمانية، وهي تتوزع على اﻷحزاب والجمعيات والنقابات والمجتمع المدني الناشئ حديثاً، (ما سُميّ لاحقاً «المعسكر الديمقراطي») انحازت إلى هذه الترتيبات فور إعلان نتائج الانتخابات، عبر «لجنة إنقاذ الجزائر» التي أسسها في  30 كانون الثاني  1991 عبد الحق بن حمودة، منسق المركزية النقابية برئاسته، ودعت من فورها الجيش إلى التدخل وإيقاف العملية الانتخابية «حفاظاً على الطابع الجمهوري للدولة».

أما المنتصرون في الانتخابات اﻷولية، وهم من ضمّهم المعسكر الوطني ـ اﻹسلامي، فعارضوا إيقاف مسار الانتخابات، وشكّل بعض الفاعلين ما سُمّي «لجنة الدفاع عن اختيار الشعب». 
باشرت جبهة الإنقاذ، أشكالاً من الاحتجاج الشعبي متبعةً في ذلك استراتيجية «المواجهة الشعبية والسياسية» عبر تحريك الشارع والدعوة إلى تنظيم تظاهرات وتجمعات ومسيرات تطالب باحترام كلمة الشعب، ودعوة العسكريين إلى عصيان أوامر مسؤوليهم إذا طلبوا إطلاق النار على المتظاهرين. لم ينفع كل ذلك، وقام الجيش بإعلان حالة الطوارئ في شباط 1992، وأصرت القوى اﻷمنية على قمع الاحتجاجات بالقوة ومنع جميع أشكال العصيان المدني، وبدأت جولات الاعتقالات.

حل جبهة اﻹنقاذ

مع إعلان حالة الطوارئ في البلاد أصدر المجلس اﻷعلى للدولة، قراراً بحل جبهة اﻹنقاذ، كما حُلّت المجالس المحلية المنتخبة، ونُصّبت هيئات محلية بديلة ﻹدارة الشأن العام. تسبب هذا بمزيد من التصعيد والتأزيم، بالتوازي مع انطلاق حملات الاعتقالات، ما فتح الباب عريضاً لظهور التيارات العنفية في الشارع الجزائري المحتقن أصلاً، وخاصة على الجانب اﻹسلاموي حيث توجد جذور مسلحة، ففي منتصف الثمانينيات تشكّلت الحركة اﻹسلامية المسلحة التي أسسها مصطفى بويعلي، ودخلت في نزاع مسلّح مع السلطة إلى حين مقتل زعيمها عام 1987. انضم بعض كوادرها السابقة إلى جبهة اﻹنقاذ بعد الإفراج عنهم عقب احتجاجات 1988، غير أنهم قرروا العودة إلى العمل المسلح عقب إلغاء الانتخابات، وانضم إليهم بعض المقاتلين العائدين من أفغانستان.

اعتمدت القيادة العسكرية سياسةً أطلقت عليها اسم «الكل اﻷمني» لـ«القضاء على اﻹرهاب»، الذي أصبح مصطلح السلطة الجزائرية في وجه مناوئيها

استمر بتزايد تشكيل الجماعات اﻹسلامية المسلحة تحت مختلف التسميات واﻷنواع، ومن أبرزها حركة الدولة اﻹسلامية، والجبهة اﻹسلامية للجهاد المسلّح، والجماعة اﻹسلامية المسلّحة التي تحوّلت بعد العام 1994 إلى اتحاد بين تلك الجماعات. كما تأسس الجيش اﻹسلامي للإنقاذ، المنبثق عن جبهة اﻹنقاذ نفسها. سريعاً تفاعلت الاختلافات الفكرية والتنظيمية بين منتسبي تلك الجماعات، من سلفيين و«هجرة وتكفير» ومعتنقين لأفكار سيد قطب. بمرور الوقت، صار الانقسام والتشظي مشهداً رئيسياً في الحركة اﻹسلامية الجزائرية (ما يتشابه مع الحالة السورية)،

على وقع هذه الانقسامات ظهرت جماعات أخرى مثل الجماعة السلفية للدعوة والقتال، التي أعلنت انضمامها إلى «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب اﻹسلامي» في أيلول 2006 (للمزيد: انظر/ي: الجماعات اﻹسلامية المسلّحة ـ فرانسوا كليمنصو وآخرون ـ دار أفريقيا الشرق ـ الدار البيضاء ـ 2003).

نحو الحرب اﻷهلية
اعتمدت القيادة العسكرية سياسةً أطلقت عليها اسم «الكل اﻷمني» لـ«القضاء على اﻹرهاب»، الذي أصبح مصطلح السلطة الجزائرية في وجه مناوئيها.

ارتفع مستوى العنف المتبادل مع توسع انتشار الجماعات المسلحة في مناطق البلاد المختلفة، بالاستفادة من الطبيعة الجبلية القاسية والسلاسل الجبلية الشاهقة الواقعة شمال وغرب البلاد (جبال أطلس). تحوّلت تلك المناطق إلى مراكز تدريب وإيواء الهاربين من بطش المدن لتحتضنهم الجماعات المسلحة وتشكّل منهم قوةً ضاربة (هل يذكركم هذا بأمر مماثل في سوريا؟).
وسط هذه الأجواء من الشحن والاستقطاب، بدأ كل طرف في جمع قواه استعداداً للمعارك. خفت صوت العقل والسياسة، ولم يتح لأية مبادرة تدعو لحل اﻷزمة أن تجد طريقها للحياة، مثل ندوة الوفاق الوطني التي جمعت بعض رموز السلطة مع رموز من المعارضة بحضور ممثلي جبهة اﻹنقاذ، كما قاد الرئيس اﻷمين زروال مبادرات حوارية عديدة مع قادة اﻹنقاذ، فشلت كلها بسبب تعنّت أطراف الدولة العميقة واﻹسلاميين أنفسهم.
استمر تفاقم اﻷزمة عاماً إثر آخر فيما تتصاعد المعارك في البلاد، وفي أقل من أربعة أعوام (1992 - 1996) كان الحصاد أكثر من مئتي ألف قتيل، وأكثر من عشرة آلاف مفقود، وحوالى ربع مليون نازح، إضافة إلى مغادرة نصف مليون جزائري إلى أوروبا، ومن بينهم كثير من الخبرات والكفاءات العلمية والاقتصادية، وقدرت مصادر أممية الخسائر الاقتصادية بمليارات الدولارات.
انتقلت الجماعات المسلّحة إلى ما سُمّي «الرعب المقدس» حيث لحق العنف جميع من خالفها الرأي، فقتلت الصحافيين والكتاب والسياسيين وحتى اﻷطفال، وانتشر واحد من أكثر مقاطع الفيديو رعباً في تاريخ الجزائر يظهر مجموعة من المسلحين يلعبون كرة قدم برأس طفل. لم تقصّر السلطات في قصف القرى الجبلية والنائية وقتل من له ومن ليس له علاقة بالعنف، وهو ما أكّدته لاحقاً الاستقصاءات اﻷممية والحقوقية المستقلة.
عزز هذا الاستقطاب العنفي التصفيات المناطقية الموجودة في الجزائر بين أهل المدن والريف (مرةً أخرى: هل يذكّركم هذا بأمر مشابه؟) وظهر تيار أمني وحكومي قوي يقول بنظرية الاستئصال بوصفه علاجاً وحيداً لما يجري من نزيف الدم. 
بالطبع، كانت الخسارات الكبرى - كالعادة في منطقتنا - من نصيب الشعب والدولة بمفهومها الحقيقي، فهل كانت هناك خيارات أخرى للخروج من تلك الدوامة؟

هامش

أُنجز هذا الاستعراض بالاستفادة من كتب وأبحاث عدة، منها «المصالحة الوطنية في الجزائر: التجربة والمكاسب» لـ الطاهر سعود، و«الكتاب اﻷببض للقمع في الجزائر 1991-1995»، وكتاب «المصالحة الوطنية في الجزائر» وغيرها. وجميعها متوافر على الشابكة


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها