× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

في حضرة السهل والجبل: بيان استسلام للجغرافيا واللغة

حكاياتنا - ملح 30-10-2020

ليست هذا مادة صحفية، ولا مقالة رأي، ولا خاطرة. هذا بيان أدعو فيه نفسي، والجميع، إلى الاستسلام لسطوة اللغة والجغرافيا

الاستماع إلى المقال

صوت سوري · في حضرة السهل والجبل: بيان استسلام للجغرافيا واللغة

الصورة: (Jillian C. York - فليكر)

حدثني شيخ من حوران، فقال «يا عمي، حوران السهل اسمها النقرة. الكل كان يسميها النقرة. بتعرف ليش يا عمي؟ لأنها منطقة منخفظة بين الجولان والسويدا، يعني الدنيا بتمطر غاد والميات بيحدرن لعنا». 

قالها، وهو يبتسم بتخابث وظرف، ثم أضاف «ويوم يا عمي فكر الفرنسي إنه نحن أرظ سهل ما منقدر نواجه دبابات فرنسا، نسي إنو حوران سهل وجبل، مش بس سهل. ولا أقلك: مش نسي، ما بيعرفش من أصلو، وشو بده يعرفه أساساً؟!».

يسمي الفلاحون في درعا المحافظة كلها باسم «النقرة»، لأنها تقع بين مرتفعين: الجولان، والسويداء أو جبل حوران. 

من المعاني الكثيرة لكلمة النقرة في اللغة العربية: حفرة العين، وهي البئر أو الماء، وهي الفتحة المستديرة التي يتجمع فيها السيل، وهي فتحة مستديرة يُرسَل منها الحبُّ إلى ما بين شِقَّي الرَّحى ليُطحن. لكأن اللغة فهمت الجغرافيا، وأعادتها إليها برنينها! 

واللغة أذكى من البشر لأنها حصيلة ذكائهم جميعاً، وهي تغيرهم جميعاً ولا يغيرون فيها إلا قليلاً. والجغرافيا «أطغى» من البشر لأنها أثبت منهم، وهي تغيرهم كما تشاء، ولا يغيرون فيها إلا قليلاً.

في زيارة مع والدي لتقديم العزاء يوماً في قرية من قرى حوران الشرقية، وأظنها غصم، تقدمنا من أهل المتوفى، وعلى بعد عشرة أمتار تقريباً توقفنا، وبدأنا واجبات العزاء، مؤكدين أن المصاب واحد، ومعددين مآثر الميت. 

قلت لوالدي بعدها: «بيعملوا مثلنا، كيف هيك»؟ قال لي: «نحن جيران من يوم يومنا، وعاداتنا وحدة!». 

لاحقاً عرفت أن تلك العادة ليست من عادات حوران السهل، بل من عادات أهل حوران الجبل، الذين لا يصافحون أهل المعزى به قبل أن يلقي وفد المعزين كلمة تشيد بمناقب الفقيد، وتؤكد أن العزاء واحد. 

يتحامق البشر عبر التاريخ، فيظنون أنهم سيقهرون الجغرافيا، يظنون أنهم يتحكمون بها، تحترب الأمم المتجاورة سنوات، ثم تركن إلى حقيقة الجغرافيا الواحدة

الجغرافيا هي من جعلت شرق السهل يشبه غرب الجبل. مهما تمرد البشر، تقيدهم الجغرافيا بقيودها.

تحترب الأمم المتجاورة سنوات، ثم تركن إلى حقيقة الجغرافيا الواحدة: «أنا من قررت يوماً تجاوركم، وأنا قررت يوماً ما تتبادلونه من بضائع، أنا أقرر من أين تنبع أنهاركم، وكيف تتجمع، وإلى أين تسير، وأين تصب، وأين ستسكنون منها. أنا أقرر طباع وعادات من يسكن هنا ومن يسكن هناك. أنا أحدد أغنياتكم ومعانيها، وما تتناقلونه من عادات، وما تختصمون عليه، وما وما وما... أنا سيدتكم الصامتة الثابتة التي تقرر لكم مهما تمردتم».

يتمرد البشر على السهل والجبل، يتناسون أن هذه الجغرافيا هي من فرض عليهم أكلة شعبية واحدة يفتخرون بها. وسيتلاعب البشر باللغة، وسيذكرها أهل الجبل والسهل بلفظين مختلفين، لكنها تبقى بين المليحي، والمليحية! تبتسم اللغة، وتقول: «ها قد عدتم إلي». 

يتمرد البشر على السهل والجبل، لتعود اللغة وتسخر منهم، فتتسلل بين الضاد والظاء، لتقول لهم: «أنا وشقيقتي الجغرافيا قررنا أنكم واحد». 
يتمرد البشر على الجبل والسهل، لتقول لهم الجغرافيا: «إن لباسكم واحد، ومأكلكم واحد، وإن حاولتم تغييراً هنا وهناك. ستغنون الجوفية ذاتها، وستحتفلون بأعراسكم بالطريقة ذاتها، وسيكون لكم المنسف، ذاته».

لم يحاول بعض الحوارنة التمرّد على الجغرافيا مرة واحدة فقط. عبر مئة وخمسين عاماً، كثيراً ما كان هناك من يحاول التمرّد، ومن يحاول تحدّي العادات واللغة مراراً. لكنهم في كل مرة فعلوا ذلك، ظلت تمطر في الجبل لتروي السهل، وظلت المليحي/ـة أكلتهم الشعبية، وظلت أهازيجهم واحدة، وظلت جمرين وبصرى وغصم تشبه الجبل أكثر مما تشبه السهل، وظلت عرى وخربا والمجيمر تشبه السهل أكثر مما تشبه الجبل. 

ظل اسم العنب الحلو المحبب لقلب الحوارنة: العنب الجبلي، وظلّوا في انتظار موسم بندورة درعا، جميعاً.

سيظل الجبل شرق السهل، ويكون دائماً مطرٌ يسقي حوران سهلاً وجبلاً. 

وسيظل السهل غرب درعا، وسيطعم حوران بسهلها وجبلها، ولن تستطيع قوة بشرية تحريك السهل أو الجبل. 

سيظل جسد حوران يشرب من الجبل ويأكل من السهل، يخبز خبزها بقمح حوران، ويعصر عنب الجبل وتفاحه.

أدرك أن كلماتي هذه لن تجدي نفعاً مع من يحترب من السهل والجبل اليوم، وأدرك أنها بالنسبة لحامل البندقية ليست إلا فذلكات و«سوالف» من دون طعم أو رائحة. 

لكنني فقط، أعلن استسلامي للغة والجغرافيا، داعياً أن يستسلم لهما كل من به عقل، وهم الكثرة حتماً.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها