× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

الحياة اليومية في سوريا: اليأس حاكماً بأمرهم!

عقل بارد - على الطاولة 16-01-2021

تزداد درجة تكيفنا يوماً بعد يوم، لنصل إلى مرحلة نصبح فيها مغيبين تماماً عما يحدث. نتعامل مع التبعات الاقتصادية والاجتماعية للحرب والمرض، وكأنها حالة طبيعية علينا أن نعيشها بالرضا، والتسليم

«أشعر أنني سيزيف آخر. أستيقظ كل صباح، أحمل صخرتي، أتسلّق الجبل لتسقط مني في نهاية يومي، وأعود في اليوم التالي لحملها من جديد. ما نعيشه في سوريا عقاب لا نهاية له، والأسوأ من عقابنا هذا حالة الاستسلام التي أصابتنا جميعاً. كلما خلوت إلى نفسي ليلاً أصابتني الدهشة من قدرتي على التحمل! المشهد نفسه يتكرر يومياً بدقة عالية ولا معقولية مخيفة، حتى في سنوات الحرب الشديدة لم نكن كما نحن اليوم! لا أفهم ما الذي يحدث».

التقطتُ هذا الحديث وأنا في طريقي إلى العمل في باص «مهاجرين – باب توما». توخياً للدقة علي القول إنني أعدت صياغته بالفصحى، أما المضمون فلم أغير فيه شيئاً بالفعل.

كان الحديث يدور بين شابين يبدو أنهما طالبان في الجامعة، يجلسان بجانب السائق الذي ثبت كمامته أسفل ذقنه، ليرفعها كلّما رأى شرطياً من بعيد. 

يعيدني حديث الشابين إلى الشهور الأولى من عمر الحرب، كانت الساعة قد بلغت الثانية عشرة منتصف الليل عندما سمعت صوت القصف لأول مرة، انكمش جسدي على نفسه لا إرادياً، وبدأ بالارتجاف، وبقيت متكومة في زاوية واحدة لا أقدر على الحركة حتى الصباح.

بعد أشهر عديدة، كنت أمشي في الشارع والقذائف تتساقط في كل مكان، والرصاص يخترق الجدران والأجساد، من دون أن أكترث!

لا أعرف سبب ذلك التحول، ما أعرفه أن مشاعر الخوف غابت من داخلي شيئاً فشيئاً، وحلت محلها مشاعر أخرى تتصف بالجمود واللامبالاة.

فيما ينشغل العالم بأخبار كوفيد19 ولقاحاته، وضرورات العودة إلى الإغلاق خوفَ الموت، ها نحن نمشي في شوارع مدننا باحثين عن عمل أو هاربين من عتمة المنازل، وكأن ما يحدث لا يعنينا!

يؤمن الفلاسفة الوجوديون بأن الإنسان قادر على حَبْكِ قصة حياته بالطريقة التي يريدها. ما دام الوعي البشري قصديّاً، فهذا يعني أن أفعاله مدفوعة من داخله وفقاً لرغباته الذاتية فقط. 
لكن؛ ماذا لو فقد الإنسان هذه الدوافع والرغبات، وتحول إلى آلة تقوم بالأفعال الحياتيّة ضمن نطاق ضيق من الظروف المتاحة؟ 

لقد تحولت حياة ملايين السوريين إلى امتثال وخضوع نتيجة الحرب والموت، لا أظن أن التكيف هو الكلمة المناسبة هنا. كان ثمة شيء أبعد وأعمق في دواخلنا، فقدناه لنتماشى مع ما يحدث من دون أي رد فعل. 
بعد سنوات من الموت اليومي، ارتفعت عتبة الخوف لدينا - نحن السوريين - إلى درجة أننا لم نعد نخاف الموت أو الفقدان! لم يكن هذا تغيراً خارجياً وقتياً، بل انعكاساً نفسياً داخلياً لما حدث، يصعب تجاوزه. 
إنه التعود. شيء مقيت يجعلنا قادرين على تقبل كل شيء. كل مرة ننجو فيها يزداد شعورنا بأن ما قد يحدث لنا ليس بيدنا، طالما نحن موجودون في هذه البقعة من الأرض. بقعة، كل من فيها، وما فيها، يحركنا بغير إرادتنا. 
حياتنا ليست ملكاً لنا، رَفضُ الخوف وكبته هو أولى المحاولات التي قمنا بها بلا وعي منا، لنكيف أنفسنا مع الوضع الجديد من دون أن نستهلك أعصابنا، أو ما تبقى منها.

في الباص نفسه الذي ألهمني الكتابة عن قدرتنا العجيبة على التكيف، لم يكن أحدٌ يرتدي كمامة سوى السائق الذي يخشى الغرامة. تلك الغرامة التي قُررت لأسباب لا علاقة لها بالخوف على المواطنين من انتشار المرض!

في اللحظة التي توقف فيها الباص وبدأنا النزول، ركض العشرات ليحتلوا أماكننا. من الصعب جداً أن تفلتَ من الزحام، ومن العدوى، ولا أحد يهتم بذلك. فيما ينشغل العالم بأسره بأخبار انتشار كوفيد19 ولقاحاته، وضرورات العودة إلى الإغلاق تحت سيطرة الخوف من الموت، ها نحن نمشي في شوارع مدننا باحثين عن عمل أو هاربين من عتمة المنازل، وكأن ما يحدث لا يعنينا.

تحولت حياة ملايين السوريين إلى امتثال وخضوع. لا أظن أن التكيف هو الكلمة المناسبة هنا، كان ثمة شيء أبعد وأعمق في دواخلنا، فقدناه لنتماشى مع ما يحدث من دون أي رد فعل

منذ بداية انتشاره وحتى اللحظة، يندر أن أرى سورياً يخاف العدوى أو المرض، كثرٌ يجيبون بالطريقة ذاتها: «يعني يا ريت يصيبنا ونموت ونخلص من هالحياة». أن يصل شعب بأكمله إلى مرحلة يتمنى فيها فقدان الحياة، فهذا ينطوي على رفض عميق لكل اللحظات المعاشة. 

التكيف الذي نظنه، هو في الواقع عجز عن فعل أي شيء آخر. ما زلنا نستيقظ كل صباح، ننتظر الكهرباء لنبدأ حياتنا وأعمالنا بالتوقيت الذي يريدون، نقف في الطوابير ساعات كي نحصل على بعض مقومات الحياة، ونعود ليلاً في انتظار الصباح التالي. 

نعم، كان تشبيه الشاب في مكانه، هذه سيزيفية جديدة. نتكيف مع ما يريدون لنا عيشه، هو فصل من فصول الاستعباد ندور فيه، قد نظن أننا نعيش، لكن الحقيقة أننا نعيش كما يريدوننا أن نعيش.

أُكملُ طريقي، أعرج على محل تجاري بجانب مكان العمل لأشتري القليل من القهوة، يناولني صاحب المحل ظرفاً صغيراً، ويقول «شو رأيك تجربي هاد»؟ أقرأ ما كتب عليه: ظرف من البن يكفي لصنع ثلاثة فناجين من القهوة، فقط بـ300 ليرة. 

أبتسم للطريقة الجديدة التي ابتكرها التجّار لجذب ذوي الدخل المحدود، هناك أساليب كثيرة يعتمدونها لنتكيف بشكل كامل مع الظروف الجديدة، هذه إحداها، كميات قليلة من أي مادة ترغب، معلبة وبسعر مناسب للجميع. 

يساعد تكيفنا المُتوهم، أننا مجتمع استهلاكي بالدرجة الأولى، تستغل السلطة حاجتنا الشرائية العالية باستخدام آلية تمهيدية عبر وسائل الإعلام، يتم فيها الترويج للحلقات القادمة، سواء كانت رفع الأسعار، أو زيادة التقنين الكهربائي، أو حتى انقطاع البنزين. 

حين سمعت صوت القصف لأول مرة انكمش جسدي وبدأ بالارتجاف، بقيت متكومة حتى الصباح. بعد أشهر كنت أمشي في الشارع والقذائف تتساقط في كل مكان، والرصاص يخترق الجدران والأجساد، ,ولا  أكترث!

تبدو هذه الوسائل التمهيدية ناجعة بالفعل! وتجعلنا في أتم الاستعداد النفسي للتغيير القادم بعدها، وهو تغيير نحو الأسوأ طبعاً.

أما ما يجعل الاستعداد حتمياً، فهو عدم وجود بدائل تمكننا من الاستغناء عن تلك الحاجات. هكذا تزداد درجة تكيفنا يوماً بعد يوم، لنصل إلى مرحلة نصبح فيها مغيبين تماماً عما يحدث، نتعامل مع التبعات الاقتصادية والاجتماعية للحرب والمرض، وكأنها حالة طبيعية علينا أن نعيشها بالرضا، والتسليم.

أبدأ يومي باحتساء ثلاثة فناجين من القهوة بـ300 ليرة فقط، وأنا أنتظر الكهرباء لمدة ثلاث ساعات لأباشر العمل، مدركة أن لا قيمة لأي شيء هنا حتى للزمن.

الوقت يمر يوماً بعد يوم، ونحن عاجزون عن الشعور بوجودنا وفعاليتنا، بل نتصرف وكأن ذواتنا النفسية منفصلة تماماً عن ذواتنا الجسدية. أقل ما يخلفه ذلك لدينا هو الغياب التام للإرادة الحرة التي ندفعها ضريبة مقابل تكيفنا المزعوم. لا رغبات، ولا دوافع للقيام بأي فعل مجدٍ، إنه السأم الذي تملَّك أيامَنا وقضى على أحلامنا.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها