× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

دروس إسبانية: النسيان لا يعيش إلى الأبد!

عقل بارد - شعوب وحروب 06-02-2021

بعد أن استقرأنا في المقالات الأربع السابقة سياق عملية المصالحات، ومسار الدمقرطة في إسبانيا، نجد أنفسنا مام سؤال مركزي: لماذا لم يحاكم أي من الجنرالات أو الجلادين الإسبان السابقين؟ ما هي الحكمة من طرح «ميثاق الصمت والنسيان»؟ وما هي الظروف التي جعلت إسبانيا تنحو لاحقاً نحو إقرار قانون الذاكرة التاريخية؟

الصورة: (ناشطون ينبشون مقبرة جماعية إسبانية العام 2014 - فليكر)

بعد وفاة فرانكو العام 1975، جرت انتخابات أفضت إلى تولي حزب فرانكو السلطة، وبعد عامين فقط أصدرت السلطات الإسبانية قانون العفو السياسي، عن جميع فرقاء الحرب الأهلية، وقد كرّس هذا القانون «ميثاق الصمت والنسيان» لجميع أحداث حقبة الحرب الأهلية، وما تلاها في مرحلة حكم فرانكو.

شمل قانون العفو جميع من شارك في الحرب اﻷهلية، أو في عمليات الاعتقال والتعذيب، طوال حقبة امتدت قرابة أربعة عقود.

تنطوي طريقة العفو الشامل في معالجة إرث الحروب الأهلية على مخاطر حقيقية كبيرة، وذلك أنها تستند إلى تواطؤ صانعي التوافق - من القياديين في الدرجة اﻷولى - على الصمت والنسيان والتجاهل، لقطف ثمار التوافق كما قطفوا ثمار الحرب، ومن دون اعتبار أو اهتمام حقيقي بما جرى لآلاف الضحايا، ولا اهتمام بمسؤولية مرتكبي تلك الجرائم أمام الضمير الوطني، أو اﻹنساني، أو أمام ضحاياهم وذويهم، ولا يهم هنا الجهة التي كانوا يقاتلون فيها، فاليسار اﻹسباني في بعض المراحل لم يكن أقل تطرفاً في تعامله مع الطرف المقابل، وبالمثل، فإن العفو عن المجرمين بالشكل الذي تم العام 1977 قطع الطريق أمام محاولة التحقيق في جرائم الحرب اﻷهلية الكثيرة.

قانون الذاكرة التاريخية

تلك الطريقة في المعالجة لم تنل رضا كثير من اﻹسبان، إذ ساوت بين الضحية والجلاد، ما دفع عدداً من جمعيات المجتمع المدني، والأحزاب إلى الاستمرار بالعمل لمحاولة إقرار قانون جديد يتعامل مع التاريخ اﻹسباني بكليّته، لا بطريقة انتقائية. فبعد أكثر من ثلاثة عقود على إصدار قانون العفو (ميثاق النسيان) ظلت الحرب قادرة على إثارة الشعور بالمرارة والانقسام.

كان اﻷمل في التغيير معقوداً على جيل جديد من السياسيين اﻹسبان لم يشتركوا في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وبالتالي كانوا على استعداد للخروج على ميثاق الصمت والنسيان

وبرغم نجاح عملية تحوّل البلاد إلى الديمقراطية بسهولة ويسر، فإنها تركت خلفها في عملية مقوننة آلاف الضحايا، من دون أن تقدم لهم العدالة، ولم تتم محاكمة أي من الجنرالات أو الجلادين. وبالتالي غُيّبت تفاصيل كثيرة من الذاكرة الوطنية، وهو ما استمر فاعلاً حتى وقت قريب. وعلى سبيل المثال، ظلت شوارع كثيرة في إسبانيا تحمل اسم الجنرال فرانكو، أو اسم رئيس وزرائه، أو تاريخ 18 تموز / يوليو، ذكرى انقلابه العسكري، فضلاً عن وجود تماثيل كثيرة لفرانكو في عدد من القرى والمناطق عقوداً طويلة، مدريد مثلاً، احتفظت بتمثال لفرانكو حتى العام 2005، فيما بقي تمثال له في ساحة بلدية مدينة سانتاندر، حتى العام 2008، وحتى العام 2015 كانت تماثيل فرانكو حاضرة في 33 منطقة إسبانية. 

واظبت جمعيات أهالي الضحايا، وهيئات المجتمع المدني، على محاولات تصويب المسار، وتغيير السردية السائدة، وصولاً إلى إحقاق الحق.

في العام 2007 نجحت مجموعات مدنية أهلية في نبش أكثر من مئة وسبعين مقبرة جماعية، وضغطت على حكومة الاشتراكيين بزعامة خوسيه لويس رودريغث ـ الذي كان جده من الجمهوريين، وتم إعدامه رميا بالرصاص بلا محاكمة في الحرب الأهلية على يد قوات فرانكو ـ ليتم إقرار قانون «الذاكرة التاريخية».

كان اﻷمل في هذا التغيير معقوداً على جيل جديد من السياسيين اﻹسبان، الذين لم يشتركوا في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وبالتالي، كانوا على استعداد للخروج على ميثاق الصمت والنسيان. بالمقابل، فإن اليمين اﻹسباني، طعن مراراً في شرعية الخروج على ميثاق المرحلة الانتقالية. 

نص قانون العدالة الانتقالية، على إدانة النظام الفرانكوني، وتكريم ضحايا المرحلة التاريخية، مع العمل على إزالة رموز الفرانكونية من الساحات العامة، والشوارع، وغيرها من مفاصل الحياة في البلاد. لكن القانون لم يبطل الدعاوى التي أقامتها محاكم فرانكو على معارضي الديكتاتورية، وإنْ نصّ على أن الأحكام الصادرة عن تلك المحاكم باطلة وغير شرعية. 

عادة ما تحدث مفاضلات بين متطلبات تحقيق العدالة، ومتطلبات المصالحة، والانتقال الديمقراطي، ما قد يستدعي التجاوز والصفح وبناء عقد اجتماعي جديد

مهّد القانون الجديد الطريق أمام إعادة النظر في كل قضية من القضايا المرفوعة على معارضي فرانكو على حدة، وهو بالتالي لم يستجب لرغبات اليسار اﻹسباني في إلغاء تلك المحاكمات، ولا لرغبة جمعيات ذوي الضحايا في تحميل المسؤولية كاملة لنظام فرانكو، واعتبار محاكمه غير شرعية. 

كما كلف القانون، الإدارات المحلية والحكومة بتحديد أماكن المقابر الجماعية، حيث دفن الضحايا الجمهوريون أثناء الحرب الأهلية.

أن تصل متأخراً..

كان إقرار قانون الذاكرة التاريخية الذي جاء بعد ثلاثة عقود من عقد الانتقال الديمقراطي، تعبيراً واضحاً على أن الذاكرة الجمعية لا تموت. 

لا ينتمي قانون الذاكرة التاريخية إلى نوع محدد من أنواع العدالة، لكنه جاء أشبه بتصويب للتغاضي الذي تضمنه ميثاق الصمت والنسيان، حين كان التركيز منصبّاً على الانتقال من نظام استبدادي إلى آخر ديمقراطي، واستند إلى فلسفة تمنح الأولوية لاستحقاقات السلم الأهلي، والازدهار الاقتصادي، وتحقيق الديمقراطية وتثبيت دولة القانون.

كان من نتائج تأخر إقرار قانون الذاكرة التاريخية (العام 2007)، أن محاسبة الجناة، لم تعد واردة، فأغلب مرتكبي تلك الجرائم فارقوا الحياة. لكنه، حقق في أحد أهم تجسداته حمايةً فعلية للذاكرة من النسيان الممنهج الذي سار عليه الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، وكان هذا ضرورياً لبناء ذاكرة تاريخية مشتركة، وتبيان الحقائق، وإنصاف الضحايا ولو معنوياً، ومنع إمكانية ارتكاب مثل تلك الجرائم المذابح مرة جديدة. 

يرى كثير من المؤرخين والمراقبين، أن إقرار «الذاكرة التاريخية» في عقد الانتقال الديمقراطي لم يكن وارداً، ويعود ذلك بشكل رئيسي، إلى أن الحروب الأهلية ـ بطبيعتها ـ تتسبب بتوريط شرائح كبيرة من مختلف الفئات الاجتماعية في أعمال العنف والقتل، والعدد يكون عادة كبيراً، وبالتالي، فإن العدالة ستطال على الأرجح فئات محدودة من هذه الشرائح، هي عادةً شريحة القياديين وزعماء الحرب. وعادة ما تحدث مفاضلات بين متطلبات تحقيق العدالة، ومتطلبات المصالحة، والانتقال الديمقراطي، ما قد يستدعي التجاوز والصفح وبناء عقد اجتماعي جديد.

الملكية في المرحلة الانتقالية واﻵن

لعبت الملكية دوراً رئيسياً في تحويل عملية الدمقرطة إلى حقيقة واقعة، وكانت بالنسبة للإسبان رمزاً وطنياً عتيقاً منحوه ثقتهم لقيادة التغيير.

ظلت صورة الملك خوان كارلوس اﻷول في عهد الانتقال الديمقراطي صورة رجل ديمقراطي، ومتقشف، وصاحب أصغر ميزانية لمؤسسة ملكية في العالم. وكان بالنسبة لكثير من اﻹسبان الملك اﻷب، والملك الشرفي، وغير ذلك من ألقاب زاهية. استمرت هذه الصور مخزّنة في ذاكرة اﻹسبان، ومنتشرة في اﻹعلام عقوداً طويلة.

كان إقرار قانون الذاكرة التاريخية الذي جاء بعد ثلاثة عقود من عقد الانتقال الديمقراطي، تعبيراً واضحاً على أن الذاكرة الجمعية لا تموت

مع إقرار قانون العفو الشامل، الذي لعب الملك دوراً رئيسياً في التوافق حوله، انتقل الملك إلى خانة رمزية تعلو فوق النقد، إلى حد أن الصحافة لم تكن تقترب من عالمه السري بأي شكل، وتقدمه إلى الجمهور بصورته الزاهية، لكن مع إقرار قانون الذاكرة التاريخية تغير اﻷمر كثيراً، وفتحت «علبة باندورا» الملكية على مصراعيها.

في السنوات الأخيرة، طفت على السطح ملفات فساد هائلة ربطت الملك كارلوس بالسعودية، واﻹمارات، وغينيا، ودول أخرى، على خلفية قيامه بدور الوسيط المالي بين شركات إسبانية وتلك الدول، ووفقاً لتحقيق نشرته «نيويورك تايمز» العام 2012 قُدرت ثروة الملك بملياري يورو.

بعد اعتقال أحد ضباط العهد الانتقالي المقربين من الملك، على خلفية فساد مالي، نُشرت مكالمات وتسجيلات تعترف فيها كورينا لارسن، عشيقة الملك بفساده، ليبدأ القضاء السويسري التحقيق، ثم لحقه القضاء اﻹسباني، ووقع كارلوس تحت ضغط شديد، لينتهي به المطاف هارباً من بلاده إلى الإمارات العربية منذ شهر آب العام الماضي.

في مطلع العام الحالي، بدأت بعض البلديات الإسبانية بسحب اسم وتماثيل الملك خوان كارلوس، من شوارع مدنها، مبررة الأمر بعدم استحقاقه التكريم لتورطه في الفساد، فيما تدرس الحكومة، مع الملك فيليبي السادس، قانونا يعيد تنظيم الملكية، وعمل هذه المؤسسة وأفرادها، ونوعية الحماية التي يجب توفيرها والملاحقة في حالة خرق القانون.

كلام أخير

يبدو محسوماً أن القدسية التي صبغت مرحلة العهد الانتقالي، قد انتهت إلى غير رجعة، وأن إسبانيا باتت أقوى من ناحية قدرتها على فتح ملفات العهد الماضي، مستندةً إلى إرث من العمل الأهلي والحكومي والحزبي، وهو ما يساعدها على التخلص التدريجي من ضغط حضور الماضي في حياتها المعاصرة.

نتذكر هنا أن نقل رفات فرانكو بهذه الطريقة والسهولة ما كان ليتم لولا انتقال البلد إلى مرحلة تفكيك محظورات التاريخ الماضي، والاستعداد النفسي الكامل لمواجهة مخاطر هذا التفكيك. 


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها