× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

عن الانتخابات والديمقراطية والبطاطا

عقل بارد - على الطاولة 09-05-2021

تربط آراء كثيرة بين الديمقراطية والانتخابات، فهما توءم لا ينفصل. وهناك آراء تُماهي بينهما، فتظن أنّ ما تأتي به صناديق الانتخابات هو الديمقراطية بعينها. لكن، هل الديمقراطية عبارة عن انتخابات، وصناديق فقط؟

الصورة: (Brian Tiengo - فليكر)

يروي علي الوردي مؤلف كتاب «تاريخ العراق الحديث» أن شيخ قبيلة في جنوب العراق استقبل المندوب السامي البريطاني على الغداء ربيع العام 1921.

أحب المندوب السامي أن يحدّث مضيفه عن «ديمقراطية بريطانيا العريقة»، وجهود بريطانيا في «زراعة الديمقراطية في العراق».

كان المترجم ينقل الكلام بأمانة إلى المضيف الذي كان يستضيف شخصاً أجنبياً للمرة اﻷولى في حياته.

ما إن انتهى المترجم، حتى انبرى الشيخ للقول: «شوف يا سيد: أنتم تأمرون. إن كنتم تريدون منّا زراعة الديمقراطية، نزرعها، وإن كنتم تريدون منّا زراعة البطاطا، نزرعها. أنتم بس تأمرون».

تُروى النهفة ذاتها عن شيخ قبيلة سوري قالها أثناء زيارة نائب في البرلمان السوري إلى قبيلة أخرى في منطقة الجزيرة. تروى أيضاً عن مسؤولين عرب آخرين. 

المهم، أن هذه السردية على ما فيها من «كوميديا»، تحيلنا إلى حقيقة علمية بسيطة: لزراعة البطاطا أصول، هناك خطوات استباقية لا غنى عنها كي تجني محصولاً سليماً، ومن بينها تحضير التربة. ماذا عن الديمقراطية؟

فلنتحدث بهدوء قبل أن نتجادل وتعلو أصواتنا كعادتنا ـ بشكل ديمقراطي ـ في الفكرة التي أخذت من أوروبا التنويرية ثلاثة قرون من الجدل الذي لما يُحسم بعد. 

لن يكون الحديث التالي ثقافياً، بل حديثاً بسيطاً لقرويّ بسيط لمس الديمقراطية العزيزة في حياته كثيراً، وتلك اللمسات كانت بمرارة العلقم مرة ومرات، ودخل بسببها السجن مرة ومرات أيضاً.

ما هي الديمقراطية؟

الديمقراطية، الديمقراطية، كلمةٌ صدعت رؤوسنا منذ نعومة أظافرنا. العالم كله يتحدث عنها، من الصين، إلى البيت اﻷبيض، إلى جارنا أبو عبدو الذي عايش معظم انقلابات المنطقة العربية.

كلٌّ يفسرها على الجنب الذي يريحه! هناك من يرونها مرتبطة بالاشتراكية، فلا اشتراكية بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا اشتراكية. وهناك من يعدونها جزءاً لا يتجزأ من الرأسمالية، وهي - أي الديمقراطية - رسالتهم إلى «غوغاء» الكرة اﻷرضية، وهم رسلها وحواريوها، وحاملو البنادق ﻷجلها. وكرمى لها تُسيّر البوارج، وتُطير الطائرات، ويُجند المرتزقة! 

تربط كثير من الآراء بين الديمقراطية والانتخابات، فهما توءم لا ينفصل. وهناك آراء تُماهي بينهما، فتظن أنّ ما تأتي به صناديق الانتخابات هو الديمقراطية بعينها، و«كما تكونوا يولى عليكم».

لكن، هل الديمقراطية عبارة عن انتخابات، وصناديق فقط؟

الديمقراطية هيكل متكامل يُنشأ بالتدريج، حتى تصير ممارسة يومية تشبه اﻷكل، والشرب، والتعبير عن النفس، وتكون عمليات التصويت والاقتراع نتيجة لتلك الصيرورة الطويلة اﻷمد 

أقترح هنا تكثيفاً تبسيطياً لفكرة الديمقراطية: هي طريقة في إدارة شؤون البلاد تقوم على انتقاء اﻷفضل، واﻷبرع، من المشتغلين بالشأن العام. ثم هي في خطوة لاحقة، مجموعة من المؤسسات التي تتيح استغلال الموارد في تنمية البلاد، وإيجاد أحسن القنوات وفق القوانين التي يتفق الناس والمشرّعون على أنها الأنسب لهذه البلاد. 

بالمختصر، الديمقراطية إدراك عالي المستوى والمسؤولية ﻷمور لا تتعلق بفرد واحد، أو مجموعة واحدة، بل ترتبط بكيان سياسي واقتصادي لا يعيش منعزلاً عن محيطه، ولا عن العالم. 

وهي كما يُنقل عن ونستون تشرتشل: «أسوأ أنظمة الحكم، باستثناء اﻷنظمة اﻷخرى».

ما هي العملية الانتخابية؟

هناك مسافات أفقية، وأخرى عمودية، تفصل الديمقراطية والحاجة إليها عن الانتخاب أو الانتخابات، عن أي عملية مثل هذه ترتبط بالمقترعات والمقترعين، مالهن/م وما عليهن/م، وبالعملية نفسها، وطرق إجرائها، ثم بالمخرجات التي تفضي إليها، وقبل ذلك كله، بالنظام الذي تجري وفقه الانتخابات بحد ذاتها.

تقاليد الديمقراطية السليمة تقتضي أن تبدأ العملية من أصغر وحدة اجتماعية في المجتمع، وصولاً إلى أعلاها في السلّم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. (عادة ما تصطف هذه المفردات الثلاثة متجاورة، ترتيبها المنطقي يخضع لأولويات الأفراد، والمجتمعات).

فلنذهب نحو أصغر وحدة اجتماعية في المجتمع، وهي الأسرة. لنفكّر معاً في أسرة متوسطة الحجم، وضعها الاقتصادي جيد، أي أنّ لها دخلاً يحقق استقراراً معيشياً ونفسياً، وتعيش في مجتمع يتمتع بنوع من الحرية السياسية والاقتصادية.

السؤال: كيف تكون اختيارات أفراد هذه الأسرة في انتخابات المجلس البلدي؟ الأرجح أنها ستتمحور حول مرشح/ة أثبتت التجرية أنه/ـا قادر/ة على خدمة المجتمع، عبر طرح مشاريع وأفكار واستجابات سريعة وفعالة لمشكلات المدينة السعيدة. 

نغيّر قليلاً في ظروف الأسرة المفترضة: الوالدان بلا عمل، والعائلة تعيش في ظرف اقتصادي سيئ. في الانتخابات نفسها، في المدينة السعيدة ذاتها، هل ستهتم هذه الأسرة بالقضية الانتخابية؟ وإن فعلت، من يمكن أن تنتخب؟ لنفترض جاء مرشح ومعه بقجة من المال، من سيصطف معه؟ (راجع/ي: ديمقراطية أبو هاني.. هات الهوية وخود مية).

تقاليد الديمقراطية السليمة تقتضي أن تبدأ العملية من أصغر وحدة اجتماعية في المجتمع، وصولاً إلى أعلاها في السلّم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي

نكمل الاختبار، ونغير الفرضية: الأسرة ذاتها، تعيش في مدينة يقود مجلسها البلدي لعقود أشخاصٌ مرتبطون بشبكات فساد ـ مرئية أو غير مرئية لا يهم ـ وهذا المجلس المعظّم شرعن لنفسه التمديد مرة تلو اﻷخرى بشكل قانوني (نتذكر ما حدث قبل أيام في الصومال حين مدّد الرئيس لنفسه، ووافقه البرلمان، ثم نتيجة ضغوط دولية تراجع البرلمان ورفض التمديد. فلنلاحظ: ضغوط دولية). إذاً كيف تكون استجابة الأسرة للانتخابات ولعملية الترشيح نفسها لو حدثت مرة جديدة؟ نترك لك الإجابة.

الجزئية المفصلية في الفرضية الأخيرة أن الأسرة تعيش وسط جو فيه من القمع الشيء الكثير، هناك مصادرة للرأي، وهناك مصادرة ﻷي اختلاف مع المنظومة القائمة، وهناك ثالثاً، تاريخ من الغش في الانتخابات البلدية، كيف ستكون الاستجابة حتى لو كانت العملية الانتخابية بحد ذاتها نزيهة مئة بالمئة؟

في الحقيقة، لو واصلنا تغيير العوامل المؤثرة على الأسرة، أو على البيئة المحيطة بها بما فيها البيئة الانتخابية حولها، لوصلنا إلى عشرات النتائج المختلفة. هذا يعني ببساطة أن البيئة الأولية ﻷي مجتمع هي المختبر الحقيقي الذي تتصارع فيه العوامل المؤدّية إلى الديمقراطية، وإلى العمليات الانتخابية بوصفها تنفيذاً عملياً للديمقراطية.

الديمقراطية والانتخابات

في جولة سريعة على تاريخ التشابك بين الديمقراطية والانتخابات، سنجد حالات كثيرة أفضت فيها الديمقراطية إلى نتائج كارثية. الانتخابات الديمقراطية هي التي أتت مثلاً بالفوهرر النازي أدولف هتلر إلى السلطة، وهي نفسها التي ساقت إلى السلطة عشرات الأسماء الأخرى شرقاً وغرباً.

ما نقصده هنا، أنّ الديمقراطية عملية معقّدة في سياقات البلدان والشعوب، وترتبط بعوامل كثيرة قبل أن تشقّ طريقها الحقيقي في قلب المجتمع، وليست مرتبطة فقط بالعملية الانتخابية التي هي مجرد جزء من هيكل متكامل يُنشأ بالتدريج، لتصبح الديمقراطية ممارسة يومية، تشبه اﻷكل والشرب والتعبير عن النفس، وتكون عمليات التصويت والاقتراع نتيجة لتلك الصيرورة الطويلة اﻷمد. 

القضية أبداً لا تُختصر بصندوق، وبيانات، وحملات. القضية ببساطة هي أن هناك معرفة، وإدراكاً، ووعياً، وحرية، وممارسة منتظمة للقضايا ذات العلاقة التي تربطك بدولتك، ومؤسساتك بشكل سليم يدرك كل طرف فيه الحقوق والواجبات، وبدون هذه الثنائية لا معنى لأي صندوق ولا أي انتخابات!

ديمقراطية «نصف كم»

يطول الحديث كثيراً حول الانتخابات والديمقراطية، ما يأتي به الصندوق مثلاً لا قيمة له على الإطلاق ما لم تكن هناك قواعد وأسس تضمن تطبيقه. لن يتسع المجال هنا للتفصيل في هذا السياق، لكنني سأختم بنهفة متداولة تقول: 

«آخر مرة مارست فيها الديمقراطية كانت سنة 1970. اجتمعنا يوم السبت أنا وإخوتي وأمي وأبي مصادفةً. قال أبي ـ الذي كان أميناً فرعياً لمنظمة الحزب في برلين - أريد أن آخذ رأيكم في مشوار نقضيه معاً غداً، هل ترغبون الذهاب إلى بيت خالتكم في دوسلدروف؟ أم نذهب إلى متحف الحرب العالمية الثانية، ثم إلى حديقة الحيوان في برلين؟

بما أننا كنا أطفالاً ومراهقين يغرّهم المشوار في سيارة جديدة ومفيمة، فقد اجتمعنا نحن اﻷولاد على الذهاب إلى المتحف والحديقة، إلا أمي التي أصرت على زيارة أختها الوحيدة في المدينة البعيدة.
وبما أن الأغلبية صوتت للحديقة، حُسم الأمر، واتُّخذ قرار الذهاب إلى المتحف ثم حديقة الحيوان. في صباح اليوم التالي استيقظنا، فوجدنا أمي تضحك، وتقول لنا بوجه حازم: بدّلوا ملابسكم سنذهب إلى بيت خالتكم!! 
كان أبي كما يظهر عليه قد استحمّ وجلس على الشرفة مبتسماً يقرأ الجريدة، متشاغلاً عنا. من يومها عرفت أن الديمقراطية تُحاك في الغرف المظلمة».


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها