× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

«سيدة من حوران».. قصة حقيقية من المقتلة السورية

حكاياتنا - خبز 17-07-2021

الأشد غرابة من وجود امرأة مدنية في منطقة كهذه هو تعامل الطرفين المتحاربين معها، فقد كانت الاشتباكات تتوقف تماماً حين تمر تلك السيدة في الشارع، وإن تجرأ أحدٌ من الطرفين على إطلاق النار - ولو في الهواء - كانت تمطرهُ بوابلٍ من الشتائم، يجبره على التوقف!

الصورة: (TheSyrianDream - فليكر)

هي حكايةٌ من آلافِ الحكايات التي أنتجها عقد من الصراعِ الدولي الذي تستضيفه سوريا منذ العام 2011. 

شاءت الأقدار لهذه الحكاية أن تبصر النور، لأن صدر أحد شهودها لم يتسع لكتمانها، فأصر على روايتها بأمانةٍ؛ رواية لم نكتفِ بها، بل عدنا إلى المصادر الأصلية لنستزيد من المعلومات.

البداية مع الشاهد، وهو عسكري استدعي لتأدية الخدمة الاحتياطية منذ سنوات طويلة. 

«مهمة عسكرية» قادت شاهدنا إلى إحدى مناطق درعا، لمحاربة فصائل المعارضة المسلحة التي كانت تسيطر حينها على المنطقة.

هناك؛ رأى ما لم يفهمه، إذ كانت تلك المنطقة خاليةً من المدنيين، ما عدا امرأة وحيدة، تسكن خط التماس (هكذا أصبح اسم حارتها) تتجول كل يوم جيئةً وذهاباً على طولِ طريقٍ يفصل بين الجيش، وتلك الفصائل.

يروي مسترسلاً: «الأشد غرابة من وجود امرأة مدنية في منطقة كهذه؛ هو تعامل الطرفين المتحاربين معها، فقد كانت الاشتباكات تتوقف تماماً حين تمر تلك السيدة في الشارع، وإن تجرأ أحدٌ من الطرفين على إطلاق النار - ولو في الهواء - كانت تمطرهُ بوابلٍ من الشتائم، يجبره على التوقف!

لم تترك تلك السيدة بيتها رغم كل المُهل التي أعطيت للأهالي لإفراغ المنطقة، سواء من الجيش، أو من الفصائل، كما أن أوامر الضباط كانت تقضي بعدم التعرض لها، وكذا فعلوا في الجهة المقابلة، ليتحوَّل بذلك وقتُ عبورِها إلى مساحة بيضاء لسلام مؤقت.

في معظم الأيام كانت السيدة تبدأ مشوارها منذ شروق الشمس، وتبقى على ذلك الحال حتى مغربها، وكأنما كانت تفعل ذلك كي تضمن بقاء الوضع هادئاً، ويلتزم كلا الطرفين ببروتوكولات مرورها المعتاد، مع أن المسافة التي تفصل أحدهما عن الآخر لا تتجاوز 150 متراً».

كانت تدرك أنَّ كلاً منا ينتظر الآخر ليقتله، ينتظر الآخر ليرتكب حماقةً ويستعرض المدى المجدي لسلاحه، أما هي فقد كانت تواظب على نوبات الحراسة تلك، غير مكترثةٍ لا بهذا الطرف ولا بذاك

يقول شاهدنا: «سألت أحد زملائي حينها، مبدياً استغرابي من مشهدٍ كذلك لم آلفه مذ بدأت خدمتي الاحتياطية قبل سنوات، ليجيبني: هي امرأة مجنونة، عليك تجاهلها».

ويضيف: «بمجرد رؤيتها كنت أشعر بشعور غريب، فوجودها كان يمنحني الأمان. كنت حين أصل إلى نقطة حراستي أتفقد وجودها، فقد غدا عنصراً محورياً في أيامي، وجزءاً أساسياً من المشهد. إنها نقطة الحياة الوحيدة في هذه البقعة القاتمة من السواد والدمار، لقد كان مشوارها الدائم هذا كافياً لنفهم - نحن الطرفين - أن ثمة هدنة ساريةٌ بأمرها ورعايتها»!

يقول الشاهد بيقين: «اليوم، وبعد سبعة أعوام، بدأت أدرك أنها لم تكن مجنونة، بل كانت الأعقل بيننا. كنا نحن المجانين - أقصد الطرفين - وهي كانت تحاول بفطرتها أن تحافظ على بيتها وحارتها، كما كانت تدرك أنَّ كلاً منا ينتظر الآخر ليقتله، ينتظر الآخر ليرتكب حماقةً ويستعرض المدى المجدي لسلاحه، أما هي فقد كانت تواظب على نوبات الحراسة تلك، غير مكترثةٍ لا بهذا الطرف ولا بذاك».

حين بحثنا وراء القصة، علمنا من أحد أقارب السيدة أنها كانت مصابة بمرض نفسي هو «اضطراب الشخصية الزوراني»، ويُعرف أيضاً باسم «الشخصية المرتابة». 

حسب تعريف الطب النفسي؛ فإن هذا المرض «عبارة عن اضطراب عقلي يتّسم بالشك المستمر، والارتياب العام تجاه الآخرين، ويكون المصاب بهذا المرض شديد الحساسية، ويشعر بالإهانة بسهولة، ويرتبط بالعالم من خلال المسح البيئي اليقظ بحثاً عن أدلة تثبت مخاوفه، وهو تواق إلى المراقبة، ويعتقد أنه في خطرٍ دائم، وقد لا يقدِّر الأدلة العكسية الأخرى».

يقول قريب المرأة: «كانت دائمة الصراخ والبكاء، كما كانت أحياناً تقوم بضربِ نفسها. في ما مضى كانت تلتزم منزلها، فزوجها وأولادها لا يسمحون لها بالتجوال. وهي من قبل أن يصيبها المرض (منذ 15 عاماً) تتسم بكثير من الصفات الحسنة، تملك قلباً محباً وعطوفاً، وربَّت أطفالها على القيم النبيلة والأخلاق العالية».

ويضيف: «مع دخول الحرب بدأت تصيبها جملة من نوبات الهلع الشديد نتيجة أصوات الانفجارات وإطلاق النار، فتصعب بذلك السيطرة عليها، خاصة مع غياب الزوج أحياناً، وبعض الأولاد أحياناً أخرى، تبعاً للوضع الأمني في المنطقة. ومع المهلة الأخيرة التي أُعطيت للأهالي لإخلاء منازلهم إيذاناً ببدء معركة من المعارك، رفضت السيدة ترك منزلها، ولم تفلح محاولات أبنائها وزوجها في ثنيها عن موقفها، فتركوها على أمل أن يعودوا مرةً أخرى لاصطحابها، فالوقت كان محدوداً، والمعركة الكبرى على وشك النشوب، ولا مجال أبداً للمماطلة».

حقنت تلك السيدة دماء العشرات، وربما المئات. بفطرتها البسيطة، أنقذت أطفالاً من اليُتم المحقق، وغيرت سيناريوهات مفجعةٍ كانت ستعيشها بعض عائلات المحتربين على الطرفين، ثم ماتت وحيدة

«لم أكن حينها موجوداً في المنطقة»، يتابع قريب السيدة، ويقول: «لكنني أعتقد أن تصرفهم هذا يجافي الصواب، فطبول الحرب تقرع، والخطر الذي ستعيشه سيكون كبيراً جداً، لكن يبدو أنهم لم يتوقعوا أن تجري الأمور بهذا الشكل، فقد مُنع الأهالي من دخول المنطقة ثانيةً، وحوصِرت المسكينة في حقل النار، لكنها بقيت ثابتة على موقفها برفضها مغادرة المنزل، رغم التسهيلات التي قُدِمَت لها من الجهتين المتحاربتين».

اكتنف الغموض مصير تلك السيدة فترة من الزمن، إلى إن تلقى زوجها اتصالاً من أحد ضباط الجيش يطلب منه القدوم لأخذ جثة زوجته المتفسخة من الشارع ودفنها، فالكلاب بدأت تنهشها، ودخول المدنيين إلى المنطقة أصبح ممكناً.

لا أحد يعرف حقيقة ما جرى، ولا أحد يستطيع اتهام جهة دون الأخرى بمقتلها، ولا طائل أصلاً من البحث خلف الموضوع، فشأنها شأن آلاف الضحايا الذين التهمتهم هذه الحرب.

حقنت تلك المرأة المريضة دماء العشرات (وربما المئات). 

بفطرتها البسيطة، أنقذت أطفالاً من اليُتم المحقق، وغيرت - ولو بقدْرٍ بسيط - سيناريوهات مفجعةٍ كانت ستعيشها بعض عائلات المحتربين على الطرفين، ثم ماتت وحيدة. 


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها