× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

ليلة الهروب من الذاكرة

حكاياتنا - ملح 08-09-2021

كانت أياماً مشحونة بأحلامٍ صغيرة: السيارة، والرحلات العائلية التي يمكن أن تحملنا إليها السيارة... وكان لدى أبي حلم صغير بخصوص السيارة يثير ضحكاً هستيرياً بين الأولاد، وتحمرّ له وجنتا أمي

الرسم: (George Licurici - كارتون موفمينت)

للاستماع إلى المقال

صوت سوري · ليلة الهروب من الذاكرة

في أواسط التسعينيات تمكن والداي - الموظفان في الدولة - أخيراً، وبعد زواجهما بـ 15 سنة من شراء منزلٍ في إحدى عشوائيات حلب، بل وأكثر من ذلك، راحا يحلمان بشراء سيارة!

أخذ أبي في العام 1998 إجازة بلا راتب، وسافر إلى ليبيا للعمل في «مصلحته» نفسها التي أدت قسطاً أساسياً في شراء البيت، وهي مصلحة الدهان. 

عاد إلينا بعد غيابٍ متواصل لثلاث سنوات. لم يكن ذلك سفره الأول؛ فقد غاب أوائل التسعينيات عامين للعمل في الكويت، وأيضاً في مصلحته نفسها.

كنت حينها صغيرة جداً بحيث يصعب أن أتذكر أياً من تفاصيل حياتنا خلال غياب أبي في الكويت. 

مع ذلك، دائماً ما يدهشني كم الذكريات المصوّرة العالقة في ذهني عن تلك المرحلة.

تمكنت لاحقاً من تفسير أصل هذه الصور التي كانت في قسمها الأعظم، إنْ لم تكن كلها، مجرد تركيبات ذهنية من ذلك النوع الذي يبني فيه الإنسان ماضياً متخيّلاً بناء على خليطٍ من المشاعر، وندفٍ من أحاديث من عايشوا ذلك الماضي.

كان البنّاء الأساسي لهذه الذاكرة المتخيّلة هو الأحاديث التي دارت في أمسيات عديدة قبل سفر أبي إلى ليبيا. 

كنا كل مساءٍ نجتمع للعشاء، لم تكن أمي تسمح بتشغيل التلفاز في تلك الأيام، وكأنها تريد ألا يشتت شيء حالة التواصل العائلي الذي سنفقده عمّا قليل.

كانت أياماً مشحونة بأحلامٍ صغيرة: السيارة، والرحلات العائلية التي يمكن أن تحملنا إليها السيارة... وكان لدى أبي حلم صغير بخصوص السيارة يثير ضحكاً هستيرياً بين الأولاد، وتحمرّ له وجنتا أمي: «رح آخدك فتلك بكل البلد، وبنشغل المسجلة على عبد الحليم: أنا لك على طول خليك ليا»، وأحياناً قد يأخذه الطرب قليلاً فيغني مقطعاً كاملاً من الأغنية، ثم يهمس لأمي وكأنه يسرّ إليها وحدها، ولكنه في الحقيقة يسمعنا همسته تلك لنشارك والدتنا الضحك: «وبتشغلي سيكارة كمان.. بتنفخيها».

أقود سيارتي وأستمع إلى صوت عبد الحليم يختتم أغنيته، بينما الصورة هي لأبي يغني لأمي: «اشتقت إليك، وحشتني عينيك... مش عارف أهرب فين منك»

تتخلص أمي من الموقف بأن تنقل الحديث إلى مناقشةٍ عمليةٍ للاحتمالات، وإلى المفاضلة بين شراء السيارة، أو القيام بالتحسينات الضرورية للبيت، وربما شراء بيت جديد بعد بيع الحالي للانتقال إلى مكانٍ تكون فيه مدارس الأولاد أفضل، والخدمات أحسن. 

تواصل والدتي نقاش الاحتمالات المختلفة، وكأن المال بات موجوداً في خزانة ثيابها. تتعمد الدخول في تفاصيل التفاصيل لتطيل وقت الحلم، قبل أن يصل والدي إلى الجملة الختامية المعتادة التي كانت – من دون قصد - تضع حداً للفرح الطارئ: «لنشوف شو الله بيسر، المهم نتوفق بالسفرة».
بعد هذه الجملة يصبح الحديث أكثرَ تقطعاً، وكأنّ أمي اكتشفت فجأة أنّ الأحلام الصغيرة الفرحة التي كانت تنسجها منذ برهة، لا يمكن أن تكتمل من دون تلك الإبرة الملعونة المسماة «غربة».

تطول فترات الصمت، ويخيم حزن ثقيل على طاولة عشائنا. 

تسأل أمي: «بدك تطوّل»؟ 

يجيبها: «إن شاء الله سنة زمان أو سنتين، على هوا التيسير». 

يعم صمت طويل تقطعه أمي، وقد تكدّر مزاجها، فتستعجلنا لننهي عشاءنا ونمضي إلى النوم.

في تلك الأماسي بالذات تكوّنت ذاكرتي عن سفرة والدي الأولى إلى الكويت؛ فقد كانت أمي تكسر الصمت الأخير في بعض الأحيان ببكاءٍ شفيفٍ متقطعٍ تستعيد خلاله ذكريات تلك السفرة. 

كانت الذكريات عبارة عن جبلٍ من التفاصيل التي تسردها والدتي عن معاناتها خلال سفره؛ تبدأ من الحفاضات والحليب ودوام الوظيفة، وتصل إلى المرض والمدارس والجيران والأهل. 

لكننا كنا نحدس بطريقة ما أنّ ذلك الحديث الشاكي الطويل، ليس إلا التفافاً حول كلمتين لا تلبثان أن تفرا من شفتيها، ويرافقهما طيف دمعة: «رح أشتقلك».

......

أتذكر تلك الليلة وكأنها تُعرض أمامي الآن على صفحة الأفق الممتد. 

أتذكرها وأنا في ألمانيا، وأخواي الصغيران في تركيا، ووالداي في مكان ما... 

أقود سيارتي وأستمع إلى صوت عبد الحليم يختتم أغنيته، بينما الصورة هي لأبي يغني لأمي: «اشتقت إليك، وحشتني عينيك... مش عارف أهرب فين منك».

وأنا أيضاً، وقد ابتعدت آلاف الأميال، ما زلت لا أعرف إلى أين عليّ أن أهرب، أو إنْ كنتُ قادرةً على الهرب أصلاً، وأفكر في نفسي: «سأهرب بالتأكيد، سأهرب إلى حيثُ هنالك من يشتاقني. ولكنني لا أعلم أين هو».

تبدأ الأغنية من جديد، ولا أعلم ما هو رقم هذه الإعادة؛ فأنا أستمع الأغنية ذاتها منذ أكثر من ساعة.

أشعل سيكارة: سأغير الأغنية مع انتهاء السيكارة، وأزيد سرعة السيارة لتزداد قوة الهواء... سأهرب من الذاكرة... وربما إليها!


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها