× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

العقل في مواجهة الكراهية

عقل بارد - على الطاولة 20-09-2021

ليس كل رأي محترماً بالضرورة، وتحديداً ذاك الذي يدعو إلى الكراهية، ويؤدي إلى اغتيال الآخرين نفسياً، ومادياً، واجتماعيّاً، بناء على عرق، أو دين، أو نوع، أو لون، أو جنس، أو قومية، أو صفة.. أو أي تصنيف آخر

الاستماع إلى المقال

صوت سوري · العقل في مواجهة الكراهية

الرسم: (أسامة حجّاج - كارتون موفمينت)

في فيلم «غريزة» للمخرج جون تيرتلتوب، يجلس الطبيب النفسي قبالة المريض (جسّد شخصيته الممثل الأميركي أنطوني هوبكنز) ويحاول إغراءه كي يتكلم معه.

يعرض الطبيب على المريض الحرية إذا تعاون، يصمت المريض، ويصرّ على عدم تعاونه.

ثم؛ وقبل خروجه من الغرفة يلتفت المريض نحو الطبيب ويسأله: «هل أنت حر»؟

تسير أحداث الفيلم بطريقة تجعل الطبيب هو من يتأثر بالمريض، إلى حد أنه يقبل هروبه ويتكتم عنه. لاحقاً؛ يقدم الطبيب نفسه أخيراً إلى الشرطة بهدوء، يمد يديه طالباً وضع الأصفاد فيهما، مع محاولة الإيحاء للجمهور بأن الطبيب سيحصل على حريته لحظة تقييده.

ما كان ظاهراً في الفيلم هو أن الذي يمتلك الحرية في إبداء الرأي والتوجيه، وتقديم النصح، وأخذ موضع العارف هو الطبيب. مع ذلك كان ما أراد صناع الفيلم قوله مغايراً تماماً، فالحرية لا تُختصر إطلاقاً بقدرتك على التصريح أمام الناس أو قيادتهم، بل تعني في أحد أهم وأعمق وجوهها أن تكون منفصلاً عن المؤثرات الخارجية، وعن ضغوط العادة والتقليد، وطغيان الرغبة في إثبات قدرتك أو نجاحك (كما كان حال الطبيب) عندما تقول رأيك. 

هنا نصبح أمام فريقين: فريق يضع في حساباته كل العوامل المحيطة أثناء تفكيره، وفريق يفكر بعقله مجرداً فكرته عما يحيط بها، ليصبح البوح بالفكرة أمراً ثانوياً لا قيمة له. بمعنى أنك تكتنز الحرية لذاتك، لا لتتباهى بها أمام الناس.

وهنا يظهر أن المقدس هو حقك في تكوين الرأي، واحترام هذا الحق، وهذا يختلف عما يتم الحديث عنه في سياقات الحداثة وما بعدها، واعتبار أن المقدس الأهم احترام الرأي الآخر بلا ضوابط. 

الحرية لا تُختصر إطلاقاً بقدرتك على التصريح أمام الناس، بل تعني في أحد أهم وأعمق وجوهها أن تكون منفصلاً عن المؤثرات الخارجية، وعن ضغوط العادة والتقليد، وطغيان الرغبة في إثبات قدرتك أو نجاحك عندما تقول رأيك

آراء كثيرة قد تنتج عن العاطفة، والكره والحب عاطفة، وقد تنتج عن العقيدة. وقد تنتج عن المشاعر (الغضب مثلاً). ما يعني أن الآراء عموماً عندما تكون محاطة بالعوامل الخارجية، فليس من الضروري أن تكون «محترمة»! وليس من الواجب التعامل معها بقدسية احترام الرأي الآخر.

الصواب هو احترام حق هذا الآخر في تكوين فكرته، وفي أحسن الأحوال حقه في قولها على أن يتحمل تبعات قولها.

ماذا لو كان «الرأي الآخر» يدعو إلى تعنيف المرأة؟ أو قتل الخصم؟ أو سرقة الآخرين؟ إلخ.. هل ينبغي بالفعل احترام الآراء التي تحيد عن المثل العليا؟ من هنا أظن أنه يجوز التساؤل: ألا يضع هذا الطرح حداً للفصل بين حرية الرأي والتعبير، وبين الدعوة إلى الكراهية؟؟

ليس كل رأي محترماً بالضرورة، وتحديداً ذاك الذي يدعو إلى الكراهية، ويؤدي إلى اغتيال الآخرين نفسياً، ومادياً، واجتماعيّاً، بناء على عرق، أو دين، أو نوع، أو لون، أو جنس، أو قومية، أو صفة.. أو أي تصنيف آخر.

العقل يدعو إلى الاصلاح، ويقبل التطور، ويتحسس الأبواب المفتوحة للحلول، في حين تنتقم المشاعر لصاحبها، فتقوده بعيداً عن العقل لتحقيق الاحتياج الذي يرضيها!

هل تساءلت يوماً: متى ندعو إلى القتل، أو عدم المسامحة، أو إقصاء الآخر...إلخ؟ أليس عندما يتملكنا غضب، أو حقد، أو كره ضد الآخر؟ أي عندما تحكمنا عواطفنا وأهواؤنا. 

يمتلك الناس حساسيات مختلفة تجاه قضايا متنوعة، فمثلاً قد يقول قائل: أنا أقبل كلّ شيء في حياتي، ولكنني لا أتقبل الكذب، ويجيب آخر: أنا أتقبل كل شيء في حياتي، ولكنني لا أتقبل الكفر، ويقول ثالث: أنا أتقبل كل شيء في حياتي، ولكن لا أتقبل القتل... وإلخ

الأول هنا قد يقف ضد إعدام القاتل، ويقول: أنا مع إصلاحه، لكنه سيقف بصلابة في وجه الكاذب، وحجته أن هذا النوع من الناس لا يُصلح، وقس على ذلك. في هذه الحالة تصبح خطوطنا الحمراء هي ميزان خطابنا، ويتوجب على العالم أن يغفر ما نغفره، لأننا اعتبرنا بتسليم أننا «نحن الذين نعرف ما الأخطر».

في حالات كثيرة ينطلق الحض على الكراهية من عاملين أساسيين: أولهما الاحتكام إلى المشاعر، لا العقل، والثاني اعتقاد المعرفة، وتقديس الفكرة التي نملكها، فلطالما كان التمسك بالأفكار واحداً من أهم تجليات العنف في العالم، لأن هذا السلوك يدفع صاحبه إلى الدفاع عن «فكرته» بطريقة جنونية، وهنا وضعت «فكرته» بين قوسين، لأنني لا أتحدث عن العلم، أو المعلومة، بل الفكرة التي تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ. 

الابتعاد عن الكراهية فعلٌ ميزانه وموجهه العقل لا العاطفة، فالعقل هو ناظم الحرية، وصائنها. استندت إلى هذا سياقات فلسفية عدة، بين أفلاطون الذي رأى في «الجمهورية» أن الإنسان الحر «هو العضو الكامل المتميز الذي يعيش لذاته وبذاته مستقلاً عن كل ضغط»، وبعد تقسيمه المجتمع إلى طبقات خلُص إلى أن «من شاء التحرر أكثر تعلّم أكثر (...) وأن ينظر بعين العقل..»، فالحرية هنا ليست قول ما نريد، بل هي تحكيم العقل فيه.

أما لدى الرواقيين، فـ«الحرية تكمن في قدرة المرء على أن يكون سيداً على أهوائه، وعواطفه، وتوجهاته ذات الأصل الطبيعي، والمرء يمتلك هذه القدرة المميزة التي سببها العقل».

في حالات كثيرة ينطلق الحض على الكراهية من عاملين أساسيين: أولهما الاحتكام إلى المشاعر، لا العقل، والثاني اعتقاد المعرفة، وتقديس الفكرة التي نملكها

ليس الغرض هنا الغوص كثيراً في المدارس الفلسفية، بقدر ما هو عرض سريع لمقاربات بالغة الأهمية عن علاقة العقل بالرأي، والعاطفة بالكراهية. وهذا يقود إلى فهم عقدة محورية يقوم عليها خطاب الكراهية في أوقات كثيرة، وتتشابك عندها الأسباب والدوافع، كما يُفضي إلى ضرورة التحكم بهذه العقدة، وفكفكتها، والسيطرة على كثير من الأسباب والمسببات من أجل عالم عاقل ينشد السلام. 

إن العاقل غالباً قادر على الوقوف في وجه الكراهية، ولأن الإنسان عاقل، يجوز القول إننا جميعاً نمتلك هذه القدرة، وهذا ما يميزنا.

هامش
في السيرة الشعبية للزير سالم، يتدخل ابن عباد لحل الخلاف بين التغلبيين والبكريين بعد مقتل كُليب، ويقول جملة شهيرة: «الدية عند الكرام الاعتذار»، في إحالة إلى دور العقل. لكن؛ حين قُتل جبير، ولدُ ابن عباد أقسم الأخير على أن يقتل انتقاماً له «عدد حبات الحصى والنجوم».

لقد غلبت عاطفة الرجل على عقله، فكان مزيد من القتل.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها