× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

زيارة إلى سوريا: 3 - بلاد الخوارزميات المستحيلة

حكاياتنا - ملح 09-10-2021

كل شيء يسير هنا بالعكس، العالم يركض بسرعة هائلة نحو المستقبل، ونحن نسير بسرعة أكبر إلى الخلف، وحدهم «المعترون» يسيرون «الحيط الحيط»، ولا يجدون السترة رغم ذلك، يجلسون في المقعد الجانبي فلا يلمحون شيئاً من ملامح الطريق، ينتظرون السائق كيف سيمضي بهم، يدفعون ما يطلبه من أجرة على الصامت، على أمل الوصول في يوم ما.. إلى مكان ما..

الصورة: (Giuseppe Simeon - فليكر)

مضى الأسبوع الثاني من إجازتي في البلاد. 

أتقنت التعامل مع خوارزمية الكهرباء، وتأقلمت مع حالة الهستيريا التي تحيط بموضوع الخبز، وأصبحت كأي مواطن صالح تحبه الحكومة، أشعر بأن كل شيء عادي، مع ما يحمله ذلك من استقرار وهمي. 

لم يأخذ مني الأمر وقتاً طويلاً لأعتاد خوارزمية الطبخ، بعدما استغربت في المرة الأولى مسارعة والدتي إلى إعداد وجبة الغداء مبكراً، لتفسر لي أنها تريد استغلال ساعة الكهرباء لاستخدام الرأس الكهربائي الذي اشترته العائلة في الشهر الماضي بعد بقائها 15 يوماً بلا أسطوانة غاز، إذ قرر «أحدٌ ما» أن أسطوانة الغاز تكفي العائلة لمدة 3 أِشهر.

أيام قليلة كانت كافية لأصبح أنا من تسارع إلى إعداد الوجبة في تلك الساعة المحددة. تفعل الجينات السورية فعلها!

تتنقل الطبخة بين الرأس الكهربائي، ورأس الغاز مرات عدة بسبب تقطع أوصال الساعة الكهربائية، في محاولة للحفاظ  على «عروس الغاز» أطول فترة ممكنة، من دون كثير اهتمام بعدم نضج الطعام بسبب اختلاف درجات الحرارة، فـ«أيام العز» ولت إلى غير رجعة، بينما تكون سيدة المنزل في قمة سعادتها إذا أسعفها الحظ وأنجزت المهمة من دون أن تقترب من «العروس»، في مظهر آخر من مظاهر «الانتصار» تضيفه إلى سجلها، كما يفعل زوجها كلما حصل على أرغفة الخبز المخصصة.

(نعم لقد انتصرتم أيها السادة.. لا نقاش في ذلك). 

«الركوب للأقوى» 

كانت وسائل النقل ونظام السير أول وجوه المقارنة التي عقدتُها بعد مغادرتي البلاد قبل عامين. لم أعتد التقيد بقواعد المرور في أوروبا بسهولة. مثلاً؛ كدت أتعرض لحوادث جراء عدم التزامي بإشارة المرور امتثالاً بـ«أوامر الجينات السورية» التي سرعان ما أعادت تفعيل الخوارزميات القديمة، بعدما تسبب اعتيادي النظام الأوروبي في انتظاري مدة طويلة من دون أن أجرؤ على قطع الطريق.

«بلاها الفزلكة»، أحدث نفسي البلهاء، ثم أندفع بين السيارات مستعيدة مهاراتي القديمة. 

يقع نظري على سيدة تفترش الطريق وتغط في سبات تام. أستغرب كيف تتمكن من النوم بكل هذا الاسترخاء على جانب أحد الطرقات، أشيح بوجهي عنها خجلاً، وأقرر أن أفكر بشيء آخر قبل أن ألمح رجلاً يغط بدوره في نوم عميق على بُعد عشرات الأمتار

في اليوم الثاني سأكتشف كمية السخافة التي كنت غارقة فيها وأنا أنتظر مرور «السرفيس أو الباص أو أي حاجة». جموع من الناس تنتظر مثلي، وكأننا في حدث كبير، يطل «السرفيس» من بعيد، يبدأ الاستنفار ورحلة التدافع، والقفز نحو الداخل، لا فرق بين ذكر وأنثى هنا، لا «جندرة» ولا ما يحزنون، «الركوب للأقوى»، أما «الأضعف» فقد يتخذ مثلي قراراً بالسير وعدم إهدار الوقت، خاصة في الليل حين ينخفض عدد وسائل النقل بشكل ملحوظ مع انقطاع الكهرباء ساعات طوال. 

أقرر المشي في الشوارع المعتمة، أتذكر تنقلاتي في البلد الأوروبي بسهولة تامة من دون انتظار، وبلا زحام، مع تصفح الإنترنت والتنعم بالتكييف، ألعن نفسي مجدداً وأمضي أراقب وجوه الناس القليلة التي تسير في مثل هذا التوقيت. 

يقع نظري على سيدة تفترش الطريق وتغط في سبات تام. أستغرب كيف تتمكن هذه السيدة من النوم بكل هذا الاسترخاء على جانب أحد الطرقات، أشيح بوجهي عنها خجلاً، وأقرر أن أفكر بشيء آخر قبل أن ألمح رجلاً يغط بدوره في نوم عميق على بُعد عشرات الأمتار. 

يتكرر المشهد، المارة القلائل يعبرون من دون أي انتباه إلى الأجساد الممددة، أحاول تقليدهم، وأواصل المشي في الشوارع المعتمة، المدينة التي لم تكن تنام في سابق زمانها استحالت مجموعة من الشوارع الفارغة.. 

نعم لقد انتصرتم أيها السادة.. وجوه الناس لا تكذب...

«قُدُماً».. نحو الوراء!

كل شيء هنا يسير بالعكس: ترتفع حرارة الصيف فيزيد معدل التقنين لأن البشر يستهلكون الطاقة في تشغيل المراوح، تنخفض الحرارة في الشتاء، فتزداد ساعات التقنين بسبب استخدام الطاقة للتدفئة، يزداد الطلب على بعض المواد فتنقطع من السوق تمهيداً لتامينها المفاجئ بسعر مضاعف، تعاني المحطات من نقص في الفيول، فيتسرب الفيول في البحر لأن «الخزان مهترئ» بحسب ما قيل، ينبه البعض من «خطر الهجرة الثانية» فتسارع السلطة إلى «تطفيش» كل من قاوم رياح الهجرة، وتقييد القادمين حتى في إجازات قصيرة بكثير من الإجراءات الكفيلة بمنع أي شخص من مجرد التفكير من تكرارها.

«بكسرلك رجلك إذا بتجي إجازة لهون».. أتذكر كيف تعرض صديقي للتوبيخ من شقيقه عندما أخبره بنيته قضاء العطلة في سوريا. 

كل شيء يسير هنا بالعكس، العالم يركض بسرعة هائلة نحو المستقبل، ونحن نسير بسرعة أكبر نحو غياهب الماضي، وحدهم «المعترون» يسيرون «الحيط الحيط»، ولا يجدون السترة رغم ذلك، يجلسون في المقعد الجانبي فلا يلمحون شيئاً من ملامح الطريق، ينتظرون السائق كيف سيمضي بهم، يدفعون ما يطلبه من أجرة على الصامت، على أمل الوصول في يوم ما.. إلى مكان ما..

نعم لقد انتصرتم أيها السادة.. لا نقاش في ذلك.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها