× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

وحش المدينة

عقل بارد - على الطاولة 12-11-2021

بين المدن والحروب علاقة وطيدة أيضاً، لا لأنّ ولادات الحروب مرتبطة بالمدن بالضرورة، بل لأنّ الحروب، قديمها وحديثها، لا تنتهي إلا بعد أن تنتكب المدن، من قرطاج إلى دريسدن، وستالينغراد، فهيروشيما وناغازاكي، وليس انتهاءً بحمص وحلب

الصورة: (alan mckibbin - فليكر)

«مُدُن».. 

لطالما شعرت بأنّ هذه المفردة شِعرية بامتياز، لا سيّما في الوهلة الأولى التي تلي نطقها أو سماعها أو قراءتها. 

لكن؛ هل تستحق المفردة هذه الصفة بالفعل؟ 

قد تكون الكتابة سبيلاً في كثير من الأحيان إلى تصويب نظرتك إلى كثير من الأمور، فالكتابة فعلٌ ينطوي على مجموعة من الأفعال، وهي بالتالي تنزع عن «الثوابت» هالة التسليم، وتذهب بنا نحو مقاربات تفكيكية. أعني الكتابة بوصفها نشاطاً فكريّاً بطبيعة الحال، لا مجرّد رصف حروف متجاورة في قوالب صارمة قرّر سواك منذ قرون أن رصفها بهذا الشكل سيُنتج كلمات محددة، لها معانٍ محسومة سلفاً.

منذ أن فكرت في كتابة «مقال» عن المدن راح وهم الشعرية ينسحب من المفردة شيئاً فشيئاً، إلى أن صارت في نهاية المطاف مرتبطة في نظري بالقسوة، والعنف النفسي، وبات فصلي بين المدينة و«التدجين» أمراً بالغ الصعوبة!

ليس من المتوقّع أن يكف البشر عن التسابق في اللهاث وراء أسبقية هذه المدينة أو تلك، وأحقيتها في انتزاع صفة المدينة الأقدم. هل هي أريحا الفلسطينية؟ أم دمشق، أو حلب السوريتين؟ جبيل اللبنانية؟ أرغوس اليونانية؟ صنعاء اليمنية؟؟؟ إلخ إلخ، أما ما هو محسوم فأنّ نشوء المدن مرتبط دائماً بأسباب سياسية واقتصادية، وبالحاجة إلى السيطرة، وتسهيل «القيادة» وترويض السكان وتعزيز قابليتهم للانصياع؛ وعليه قد لا يكون غريباً ربط «الترقّي» بالمدينة، حتى غدا «التمدّن» غايةً الغايات. 

لا جدال هنا في أن المدن قدّمت للتأريخ مادة مغرية بما شُيّد فيها منذ أقدم العصور من صروح، ومبانٍ، وأوابد، لكنّ الغريب بالفعل هو هذا التسليم البديهي بأنّ تطوّر الجنس البشري يمرّ بالضرورة من بوابة تدجينه. 

لقد كانت المدينة آخر أشكال التجمعات البشرية ولادةً، ونُظّر لها على أنها رأس هرم الترقّي، ولم يكن صعباً على الإطلاق أن تتحول إلى «حلم» لكثير من أبناء الأرياف، والبوادي، ويهيمن نمطها على سائر أنماط العيش الأخرى، حتى إذا انتبهنا إلى أنّ الأرياف كادت تفرغ من سكانها، وأنّ هذا يشكل خطراً على المدينة نفسها إذ لا غنى لها عن ريف يخدم احتياجاتها، ويلبّي نهمها، وجدنا أنفسنا على موعد مع الدعوة إلى الحفاظ على الأرياف، وأنماط الحياة فيها. 

وإذ اضطررنا إلى التسليم بالخطر الذي تشكله «مدننا» على الكوكب بأسره مع تعاظم خطر التغير المناخي، حوّلنا الأمر إلى «عنوان» وقلنا لا بدّ من «تكيف المدن من أجل المرونة المناخية».

بين المدن والحروب علاقة وطيدة أيضاً، لا لأنّ ولادات الحروب مرتبط بالمدن بالضرورة، بل لأنّ الحروب، قديمها وحديثها، لا تنتهي إلا بعد أن تنتكب المدن، من قرطاج إلى دريسدن، وستالينغراد، فهيروشيما وناغازاكي، وليس انتهاءً بحمص وحلب. 

نعم، لقد نهض كثير من تلك المدن من جديد، وفي الطريق إلى ذلك «النهوض» تحولت أجساد ملايين من البشر إلى مجرد مكونّ من مكونات الطبقات الجيولوجية.  

يخبرنا معجم «لسان العرب» بأنّ «المدينة» مفردة مشتقٌّة من الفعل «مَدَن»، فعبارة «مَدَن بالمكان» تعني: أقام به، وهو - وفقاً للمعجم نفسه - فعلٌ مُمات، شأنه شأن أفعال أخرى في اللغة العربية كفّت الألسن عن استخدامها فأُميتت. 

هكذا ببساطة يموتُ الفعلُ وتستمرّ المدينة.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها