× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

الخصوبة المتزايدة زمن الحرب: «الجريمة» و«الضحية»

عقل بارد - على الطاولة 15-09-2022

أظهرت إحصاءات الإدارة المحلية التابعة للحكومة المركزية في دمشق تزايد أعداد السوريين والسوريات خلال سنوات الحرب إلى نحو 30 مليون نسمة، ما أثار جدلاً واسعاً على مواقع التواصل خصوصاً بعد مقارنة هذه الإحصائية بأخرى سابقة أظهرت نمواً واضحاً في عدد السكان رغم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة

الصورة: (مفوضية اللاجئين - فليكر)

فتحت إحصاءات أعداد السكان التي نشرتها دمشق - الشهر الماضي - الباب أمام سيل من الانتقادات وحتى السخرية من العائلات التي زادت من إنجاب الأطفال خلال سنوات الحرب، وكيلت لها اتهامات بـ «الجهل والإنجاب دون وعي للمسؤولية». في المقابل، ظهرت منشورات توعوية دعت لضبط الإنجاب، وهو ما يدفعنا – بفرض التسليم بدقة الإحصاءات - للتساؤل عن المسؤول عن ضبط الحالة السكانية في البلاد، وهل الإنجاب في الحرب جريمة؟

تستدعي الإجابة إجراء عمليات مقارنة ومقاربات تاريخية وعلمية واقتصادية، والتدقيق في العوامل الخارجية والداخلية في الأوساط التي شهدت تنامي معدل الإنجاب، ما قد يحوّل الرد على التساؤل إلى بحث مطول، غير أن نظرة أقل تعمقاً يمكن أن تفي بالغرض.

لا بد من الإشارة إلى أن علم السكان تطور خلال القرن الماضي، وبرز فيه تياران متناقضان. الأول شيوعي ينظر إلى السكان بوصفهم العمود الفقري للتنمية الاقتصادية، وعليه، جربت دول شيوعية عدة حث الشعب على الإنجاب، وقدمت تسهيلات وخدمات إضافية إلى العائلات التي تنجب مزيداً من الأطفال، وصلت في بعض الأحيان إلى افتتاح مراكز خاصة تبنت فيها الدولة الأطفال الذين لا تستطيع عائلاتهم تربيتهم، مثل رومانيا التي ظهر فيها ما بات يعرف باسم «أيتام رومانيا» بعد انهيار نظام الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو.

مقابل النظام الشيوعي، اتخذ النظام الرأسمالي موقفاً أكثر تحفظاً، فنظر إلى الإنجاب على أنه عملية استثمار، وربط بين معدل النمو السكاني ومؤشرات اقتصادية أخرى بحثاً عن أفضل المعدلات الملائمة لتحقيق النمو المرجو.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسطوة الرأسمالية، ظهرت مشكلات عدة في نظرة الرأسمالية إلى معدلات الإنجاب، في ظل تضافر عوامل أخرى من بينها تطور الطبابة، وظهور شبكات الضمان الاجتماعي التي مولت خدمات ما بعد التقاعد، فتزايدت معدلات الشيخوخة والمتقاعدين من بيئة العمل، بالتزامن مع انخفاض عدد المواليد الذين يمثلون العمود الفقري لعجلة الإنتاج.

ما سبق دفع إلى «استيراد العمالة» عن طريق فتح الباب أمام المهاجرين من الخارج، وهي نقطة أثيرت مجدداً مع ظهور موجات اللجوء السورية إلى أوروبا في السنوات العشر الأخيرة، إذ رأى البعض أن «أوروبا استغلت الحرب السورية لسد الفجوة السكانية فيها».

التأثير الحكومي في سوريا

مرت سوريا منذ استقلالها عن فرنسا العام 1946 بتقلبات في النظريات الاقتصادية المتبعة رسمياً، أنتجت نموذجاً سورياً فريداً، اشتراكياً بمظهره العام، وليبرالياً بسلوكه وتوجهاته، فأطلق على هذا النسق مسميات عديدة آخرها «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي ظهر بعد تولي الرئيس الحالي بشار الأسد الحكم عقب وفاة والده في العام 2000.

رغم الاختلاف الجوهري في النظريتين، اهتمت الاشتراكية والرأسمالية بالسياسة السكانية، لما لها من ارتباط وثيق بالاقتصاد والنمو، فكلتا النظرتين درست التوزع السكاني ونسب الخصوبة والنمو وغيرها من المسائل التي تهتم بالموارد البشرية، غير أن الحكومات السورية تأخرت في إدراك أهمية هذه القضية حتى 1970. 

Made withVisme Infographic Maker

لم يكن رد الفعل الحكومي متناسباً مع حجم النمو السكاني، فاستمرت سياسة الحياد، بالتوازي مع جهود غير مباشرة تمثلت في إنشاء مجموعة من المديريات والمؤسسات لمتابعة المسألة، وقد وضعت خطط لتحقيق التوازن السكاني ونسب النمو لتتوافق مع نسب النمو الاقتصادية المطلوبة، ومن بينها «اللجنة الوطنية للسكان» العام 1973، و«مديرية التخطيط البشري»، و«لجنة التنمية والسكان» في مجلس الشعب التي شُكلت العام 1979 (تحول اسمها لاحقاً إلى لجنة البيئة والسكان).

لكن لم تصدر أي قوانين رسمية تضع محددات للإنجاب أو تقيده، بينما نشطت مؤسسات تابعة للأمم المتحدة في تنظيم حملات توعية، فساهمت تلك الجهود مجتمعة في خفض نسبة المواليد إلى الثلث تقريباً (بين 1970 و1995).

على الصعيد الاقتصادي، حتى قبل العام 2000، كانت الجهود الحكومية منصبة على دعم الزراعة، وكانت تلك تشكل ثلث الدخل القومي في البلاد، وتستوعب نحو ربع حجم العمالة في السوق. ومن المعلوم أن قطاع الزراعة يحتاج إلى أعداد كبيرة من اليد العاملة، وهو ما يفسر العدد الكبير لأفراد الأسر الريفية في المجتمعات الزراعية مقارنة ببقية المجتمعات، الأمر الذي ساهم في تكريس مفهوم العائلة الكبيرة.

مع ذلك، لا توجد دراسات كافية ومحايدة حول متوسط عدد أفراد الأسرة في المناطق الزراعية في سوريا في تلك المدة، أو حتى الفروقات في متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة بين منطقتين ريفيتين في محافظتين مختلفتين.

مع تحول اهتمام الحكومة السورية إلى الصناعة في تسعينيات القرن الماضي، وما ترافق من توسع المدن الرئيسية، بالتزامن مع موجات الجفاف التي ضربت البلاد في مطلع القرن الحالي، زادت حركات النزوح من المجتمعات الزراعية إلى العشوائيات في أطراف المدن. وانتقلت مع هذه العائلات ثقافة الأسرة الكبيرة، ما يفسر العدد الكبير لأفراد الأسرة في مناطق السكن العشوائي التي لا تتوافر في معظمها مقومات الحياة، وتقدم فيها الحكومة خدمات بالحدود الدنيا.

ثم مع التحول الاقتصادي نحو الليبرالية المشوهة أو «اقتصاد السوق الاجتماعي» التي وضع أساسها في الخطة الخمسية التاسعة العام 2000، وأُقرت في الخطة الخمسية العاشرة العام 2005، بدأت الحكومة تتعامل مع المسألة السكانية بجدية أكبر، خصوصاً مع التوجه نحو قطاعات الصناعة والاقتصاد الخدمي القليلة العمالة، فحاولت خلق توازن بين معدلات النمو والخصوبة، غير أن هذه الجهود اقترنت بضبابية في الأهداف الرقمية التي يمكن بها تحديد مدى النجاح في الوصول إلى الأهداف المعلنة.

أسهمت التوجهات الحكومة غير المقرونة بالضوابط والمحددات، وغير المستندة أيضاً على الدراسات الكافية لتحديد نسب النمو المطلوبة لكل مرحلة، في انخفاض معدلات الخصوبة من 11 مولوداً لكل امرأة متزوجة العام 1978 إلى 6.8 في العام 2002، فتراجعت معدلات النمو السكاني إلى 2.58 في المئة في 2004، في حين كان المعدل في نهاية 1994، 3.29 في المئة، علماً أن هذه الأرقام أثارت جدلاً وتناقضاً في وقت لاحق، مع ظهور عمليات مسح أظهرت نمواً يفوق التقديرات الرسمية في عدد السكان.

Made withVisme Infographic Maker

يمكن القول إن الحكومة شجعت قبل 1970 الإنجاب ودفعت نحو زيادة أفراد الأسرة الواحدة، ثم تراجعت عن دعمها الإنجاب واكتفت بالحيادية، كما لم تتمكن من تحقيق التوازن السكاني المطلوب، بسبب تقلب توجهاتها الاقتصادية، أو بسبب عدم توافر أرقام دقيقة لمراحل التطور السكانية التي تحتاج إلى عمليات مسح دورية مكلفة، إضافة إلى عدم امتلاكها إجابات واضحة حول نسب النمو المناسبة لخططها الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تغير بطيء ومتفاوت في ثقافة الإنجاب.

بالإضافة إلى ثقافة الإنجاب في المجتمعات الزراعية النازحة إلى أطراف المدن، شكلت قضية «الضمان الاجتماعي» أبرز الأسباب المشجعة على التكاثر، إذ يشكل الأبناء مصدر الضمان الوحيد في غياب منظومة ضمان اجتماعي تضمن للأفراد حياة كريمة بعد سن التقاعد. وساهمت الآراء الدينية ولا سيما الإسلامية التي يدين بها معظم سكان سوريا في التشجيع على الإنجاب.

في زمن الحرب

أظهرت تجارب حديثة اهتم بها علم السكان أن ثمة ارتباطاً بين الحرب ومعدلات الإنجاب.

Made withVisme Infographic Maker

تلك الظاهرة اجتهدت نظريات عدة في تفسيرها، وخلص بعضها إلى الربط بين النقص في عدد السكان الذي تسببه الحروب وبين ارتفاع معدلات الولادة رغبة في سد هذه الفجوة، خصوصاً مع زيادة الطلب على اليد العاملة مع تحسن الظروف الاقتصادية، إضافة إلى عوامل أخرى بعضها عاطفي وآخر نفسي يتعلق بزيادة التمسك بمظاهر استمرارية الحياة في أوقات تزايد معدلات الموت، وآخر يرتبط بمفهوم الضمان الاجتماعي المذكور، حتى في البلدان التي تمتلك شبكات وبرامج ضمان اجتماعي.

في الحالة السورية، مثلت مخيمات اللجوء والنزوح، وهي بيئة بعيدة نسبياً عن ميادين المعارك، مصدراً خصباً لزيادة معدلات النمو، كما ساهم تراجع حدة المواجهات العسكرية وتجميد خطوط التماس في تحسن درجة الأمان في المدن عامة، الأمر الذي شكّل أرضية يحاول السوريون/ات بناء حياتهم عليها.

بنظرة عامة إلى الأوضاع السورية، تؤثر موروثات المجتمع الزراعي المتجذر في ثقافة الإنجاب، حتى في المناطق البعيدة عن الأرياف الزراعية. كذلك يلعب الدين وغياب الضمان الاجتماعي دوراً، ما يفسر معدلات الإنجاب المتزايدة حتى في المخيمات التي لا تتوافر فيها أدنى متطلبات المعيشة. فهناك تتضافر العوامل العاطفية والرغبة في تحسين الأوضاع بالاعتماد على زيادة عدد أفراد الأسرة، ومن ثم زيادة اليد العاملة، أو حتى زيادة مخصصات المساعدات، وإنجاب أطفال يمكن الاعتماد عليهم مستقبلاً بعد الخروج من سوق العمل أو انقطاع المساعدات.

في خلاصة الأمر، لا يمكن تبرير إنجاب الأطفال وتنشئتهم في ظروف غير مناسبة، كما لا يمكن تبرير التعامل مع الإنجاب وفق منظور مادي أناني. وفي المقابل، لا يمكن التعويل على حملات السخرية، أو التوعية الإعلامية للحد من الإنجاب، إذ ستبقى هذه القضية مستمرة ويدور النقاش فيها ضمن حلقة مفرغة، ما لم تتغير الظروف تغيراً حقيقياً ينجم عنه تغيير في السلوك والهدف الشخصي من الإنجاب الذي لا بد أن يلائم التوجهات الاقتصادية في إطارها العام.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها