× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

من كواليس الجامعات السوريات: «تناوبنا على فراش الدكتور»

حكاياتنا - ملح 20-09-2022

كم من فتاة في جامعاتنا السورية ارتهن مستقبلها الدراسي بغرائز مدرّس جامعيّ، ونزوات مسؤول في الاتّحاد الوطنيّ وفرع الحزب وشعبه وحلقاته والسكن الجامعي! هنا واحدةٌ منهنّ تروي لنا حكايتها وحكايات عدد من زميلاتها، تناوبن على «فراش الدكتور» ذاته، ونكتفي بنقل شهادتها وتكثيفها ما استطعنا

الصورة: (كلية العلوم بدمشق - فايسبوك)

قبل مغادرتي عيادته في زيارتي الأخيرة، قال لي طبيب الأمراض النفسيّة: «لن تتخلّصي من هذه العقاقير قبل أن تجتازي حاجز الخوف؛ علاجك يبدأ من لحظة انتصارك على الأخرى التي تعيش داخلك، ويسكنها هاجس الرعب وأفكار الحقد والانتقام. أحبّي جسدك كما هو الآن، وتصالحي مع ذاتك وتخلّصي من القهر والكبت والاستسلام. من هنا فقط يبدأ العلاج. نهاية الخوف هي بداية لحياة جديدة».

لكن من أين لحواء تلك الثقة في مجتمع تحكمه ثقافة «الحكي ببلاش»، و«اللي إيده بالمي مش متل اللي إيده بالنار»، و«الرجال عيبه على كندرته»... والقائمة تطول من تلك الرواسب التربويّة والإرث التقليدي لمجتمع رهنَ شرف المرأة بعوراتها، وسخّر معظم قوانينه لخدمة الذكر؟ كيف لي أن أتغلّب وحدي على ذاتي المقموعة منذ الصغر، ذاتي المسكونة بأشباح من الخوف والرعب؟

كيف أتخلّص من فزع رنين الهاتف، وطرق الباب، وهواجس العتمة والوحدة وموعد الدواء؟! أي مجتمعٍ ذاك الذي يقبل بي أنا «الزانية»، ويسامحني على جرم كنت فيه الضحيّة بدلاً من أن يلومني ويطاردني بكل أنواع الوصم؟

سقطت ميس وانتصر الفحل

ها هي ضحيّة جديدة من ضحايا «الدكتور» تدنو من باب الشقّة، بقدمين متلاصقتين، تدلّي حقيبتها إلى وسطها لتتوه أنظارنا عن مسرح الجريمة.

لم يكن سقوط ميس، طالبة السنة الأولى في أحد معاهد جامعة دمشق، هو السقوط الأوّل من نوعه في شقتنا، في الأمس القريب سقطت ريم، أما أنا فكنتُ أقدمَ الساقطات بينهنّ. 

بالطريقة المتعارف عليها بيننا، نحن العائدات من حضن «الدكتور»، استقبلتها منى بزغرودة طويلة سبقتها الجملة المعهودة: «مبروك الترفّع يا عروس»، وانهلنا عليها بأسئلة عن الواقعة باستهتارٍ وتهكّم، ليوقفنا صراخها ونحيبها.

يبدو أن طريق العبور إلى الشهادة الجامعيّة لا بدّ أن يمرّ عبر جشع أحدهم أو فراش آخر، فمن استطاعت للأولى سبيلاً خسارتها منسيّة وربحها لا يقدّر بثمن، وهذا ما نسمّيه «بدل خدمة»، وهو حكر على الأثرياء وأبناء المسؤولين، تماماً كبدل الخدمة العسكريّة، مَن يعجز عنه مشروع شهيد أو جريح، وفي أحسن الأحوال هارب إلى جحيم آخر. لتبقى «التسعيرة» بوابة النجاح، ومن حسن حظّ الذكور أنّها الحل الوحيد. أمّا نحن، فخيارنا الإضافي هو «فراش الدكتور»، وعلينا أن نجتهد بأجسادنا، فأهمّ العلامات تسجَّل في غرف النوم.

«التسعيرة» بوابة النجاح ومن حسن حظّ الذكور أنّها الحل الوحيد، أمّا نحن، فخيارنا الإضافي هو «فراش الدكتور» - الرسم: صوت سوري

يعلو نحيب ميس وهي تتمتم مفردات كنا قد سبقناها إليها: «شو عملت بحالي؟ دخيلك يا الله!»، فتصرخ عليها سامية: «خلص فضحتينا.. شو أوّل وحدة! ما كلنا متلك».

اليوم، بعد خمسة أشهر، تقاسمنا فيها الفرح والحزن، والبرد والعتمة والملابس وحتّى المخدّة أحياناً، اليوم تكتشفنا ميس بعد اعترافاتنا، نحن زميلات السكن وشريكات المصيبة، بما كنّا إليه سبّاقات، وتحمل عيناها شيئاً من العتب واللوم وأشياء من الكره، بعدما كنّا ملاذها الوحيد.

تركناها وحيدة في بداية طريق اعتقدنا مثلها يوماً أنّه طريق الخلاص. ولم نثنها عن طريق عرفنا نهايته لعلّنا نرمّم جراحنا بجرحها الساخن، أو هو عشقنا للعدالة والمساواة، حتّى في الوجع!

أنا العرّابة

في تلك الليلة، جمعتنا الغرفة الأصغر في شقّة استأجرناها منذ ثلاثة أعوام في مدينة جرمانا. تبدّل عليها أكثر من عشر طالبات وعشرات الزائرات، وملأت زواياها القصص والأكاذيب الجميلة، والمشاعر التي ما لبثت أن رحلت بعد كل رحيل، إلا هذه الليلة، استحضرت كل ذاكرة الوجع وعرّتنا من كل الموبقات.

تقيّأنا معاً ذكريات الزمن الموبوء. لا أحد سوانا سيعي هذه الساعات التي اختلط فيها نحيبنا مع ضحكاتنا الصفراء، نحن اللواتي يلقبوننا بـ«ضرب ماكن»، أو «شلخة» أو «قرطة»، وفي أحسن الأحوال «فرس» أو «مهرة»، ليتسابق على ترويضنا الفرسان.

في تلك الليلة، سقط القناع وتناوبنا على تقيّؤ الماضي القريب بشيءٍ من القرف والاشمئزاز والذل يجرّنا إلى تلك الساعة أو الساعات التي تسبق وصول «الفحل» بمتعة البلوغ ونشوة الانتصار، وقبل أن يعلن نهاية اللعبة، يوقع على فاتورة الفراش: «مبروك ترفّعتي بالمادّة بمعدل ممتاز».

تنتهي الجولة الأولى مع صدور نتيجة المادة الأولى، وغالباً ما تكون الجولات التالية أقل إثارة وحماسة وأكثر ندّيّة، فالخاسر استخدم كل نقاطه، والرابح اكتشف خصمه واستنزفه وبدأ يتهيّأ لمباراة أخرى وخصم جديد، ليضيف إلى سجلّه الرجولي وساماً آخر وميداليّة جديدة. 

لا يكاد يخلو حديثنا من مفردات باتت زادنا اليومي: «هذه صاحبة العميد. تلك إحدى صاحبات الوكيل. هي راحت لعند العميد ومشي الحال» - الرسم: صوت سوري

لقد كنت عرّابة ميس والضحيّة الأقدم في هذا المكان. منذ أيامي الأولى تلقّفني أحد الدكاترة بالرهبة والهيبة والأفكار التحررية التي أدهشتني، بالإضافة إلى المعاملة الأبوية التي افتقدتها في والدي المزارع البسيط.

أغرتني المعاملة اللطيفة، أنا الفتاة الريفية التي يميّزها الدكتور عن زميلاتها. سقطت من الزيارة الأولى إلى مكتبه. عاشرني كمن يعاشر دابة، وقبل أن يلقفني خارج فراشه ساومني على إحدى زميلاتي لاستدراجها إلى وكره المعروف للكثيرات في منطقة المزة، وعرض لي بعض صوري في فراشه ليضمن موافقتي. 

للخلاص منه، حاولت إقناع نور بإقامة علاقة معه، بدايةً دعوتها إلى أحد المطاعم وأنا أخطط للقائهما «مصادفة»، وبدا في غاية اللطف والأناقة والكرم، تماماً كما رأيته في المرة الأولى. دفع حساب طاولتنا وأوصلنا بسيارته الفارهة مؤكداً استعداده لتقديم كل إمكانات المساعدة إلى من تحتاجها منّا، وترك لدى نور انطباعاً مبهراً شجّعني أن أخبرها ليلاً بأنه معجب بها، وقادر على مساعدتها بالنجاح في أي مادة حتى تلك الخارجة عن سلطته. 

صُعقت بجوابها بكل هدوء واتّزان: «طز فيه وبمادته، رح أنجح غصباً عنه». ومنذ ذلك الحين قطعت علاقتها بي ولم أعد أراها في المعهد، وعلمت في ما بعد من إحدى زميلاتها أنها تركت المعهد بعد اتّهامها من أحد مسؤولي اتّحاد الطلبة أنها لم تشارك في إحدى المسيرات المؤيدة. 

الوجه الآخر وربّما الوحيد لـ«الوطن»

في جامعاتنا السورية، لن تصدّق/ي كم من فتاة ارتهن مستقبلها الدراسي بغرائز مدرّس جامعيّ، ونزوات مسؤول في الاتّحاد الوطنيّ وفرع الحزب وشعبه وحلقاته والسكن الجامعي... 

أكاد أجزم أنّ معظم طلبتنا في الجامعات والمعاهد مورِس عليهم شكلٌ من الابتزاز النفسي أو الجسدي أو المادّي، وربّما جميعها تباعاً. في جعبة كلّ طالب وطالبة الكثير من القصص والروايات، وفي كلّ غرفة سكن جامعيّة وكل شقّة مُستأجرة شهادات وشهداء لابتزاز ما، ولا يكاد يخلو حديثنا من مفردات باتت زادنا اليومي: «هذه صاحبة العميد. تلك إحدى صاحبات الوكيل. هي راحت لعند العميد ومشي الحال. هذا دفع وترفّع»، لتصبح أسهل الحلول المتداولة تُختصر بإحدى العبارات: «روحي لعنده. ادفع له واخلص. شوف الحوّيص اللي عنده. الآذن بحلها». 

كثيرات يحلمن بأن يعود بهن الزمن إلى يوم سالف وأنا أحلم لو كنت نور، لو عدت تلك الفتاة الساذجة الحالمة. يبدو لي أن الأحلام توقفت في هذا المكان، وأحتاج إلى مكان آخر ووجوه ولغة أُخرى لعلي أبدأ من جديد، لعلي أصدق أن الحياة تبدأ الآن، وربما كما يقال: «أول الدنيا بكرا»، أو كما يقول طبيبي النفسي: حطمي نصفك الجبان وانتصري.

لكن ماذا لو كانت هذه نهاية لأطول حلم تحلمه فتاة شرقية؟ وماذا لو أن هذا الحلم سقط في أحضان مُبتز عاهر؟


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها