× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

على كل الجبهات: نحن ضحايا

حكاياتنا - خبز 17-04-2021

«لا أحبّ أن أقتل، ولا أعرف إن كان هناك من يحبّ أن يقتل. أحياناً أحمد الله لأنّني حين أضغط على الزّناد لأطلق النّار، لا أرى وجه خصمي بوضوح. أخاف أن تلتقي عيناي بعينيه، وأن تقف إصبعي في منتصف الطّريق، فلا تكمل مهمّتها، ولا تحميني من موت محقّق»

الاستماع إلى المقال

صوت سوري · على كل الجبهات: نحن ضحايا

في تلك اللّيلة جلسنا طويلاً أنا وهو.

عندما أسترجع في ذاكرتي بعض التّفاصيل أشعر بالغرابة. هل يُعقل أنّني أمضيت حوالى ساعة ونصف السّاعة، وأنا أتحدث إلى مقاتل سابق في صفوف الجيش السّوري، وأرغب في سماع المزيد من حكاياته، بقلب مرتجف وعينين دامعتين؟!

لو فكّرت قبل سنواتٍ بأنني سأعيش هذا الموقف، لكنت ضحكت من نفسي بالتأكيد، وربما كنت وصفتُها بالخائنة. أن أجلس إلى جانب «قاتل» مُحتمل وأتعاطفَ معه، هي بالتأكيد خيانة، على الأقل لمئات الضحايا الذين - ربما - سقطوا يوماً على يديه.

لم يمضِ على تعارفنا سوى بضعة أيام. شابّ ثلاثينيّ طويل، نحيل، لحيته مشذّبة بعناية، وشعرُه الطّويلُ أسودُ اللّون مربوط وراء رقبته بلا مبالاة.

يدخّن كثيراً. ما إن تنتهي إحدى السجائر، حتى يشعل الأخرى، وبكلّ عصبية. ربما كان متوتّراً من حديثنا الذي بدأ فجأة من دون تخطيط مسبق، ولا أدري لماذا قرّر متابعته، وبدا لي لوهلة أنّه نسي وجودي في المكان نفسه، واعتقدَ أنّه يكلّم نفسه على انفراد.

ربما على العكس، شعر بأنني - أنا الغريبة التي قد لا يلتقيها مرّة أخرى - قادرة على سماعه حتى النهاية، من دون أحكام، وهو قادر على أن يحدثها من دون خجل.

«هي طلقة واحدة من الخلف، كانت كفيلة بأن تجعل منّي اليوم هذا الكائن»، يقول، ويشير بمرارة إلى ساقيه المشلولتين، والكرسيّ المتحرّك القديم المتّسخ الذي يجلس عليه.

لا أدري لماذا خُيّل إليّ في تلك اللحظة أنّ قدمه تتحرّك، ترتجف.

هل تعرفين معنى أن تَقتلي، من دون أن تكون تلك رغبتك بالضرورة؟ أن تقتلي كي تعيشي، أو ربما أن تقتلي من دون أن تعرفي لماذا؟

لا يُحب أن يتحدّث كثيراً عن ذلك اليوم بالتّحديد، لكنّه يريد أن يحكي وباستفاضة عن «الحرب». الحرب اللعينة التي سلبته الكثير.

يشعل سيجارة أخرى، ويقول: «قذرة. هذه الحرب قذرة. هل تعلمين معنى أن تري الجثث متناثرة يميناً وشمالاً وأنت تركضين للنّجاة بحياتك، من دون أن تعرفي إلى أين عليك أن تتّجهي؟ هل تعرفين حقّاً ما هي رائحة الدم والحرق عندما تمتزجان؟ هل تعرفين ما هي رائحة الموت؟ هل رأيتِ من قبل جثثاً مقطّعة؟».

وددت لو أقاطعه، وأخبره بأنّني فعلاً رأيت جثثاً متناثرة الأشلاء، قُطعت بعد إصابتها بصواريخ وقذائف رُميت ذات يوم من جبهته هو، إلى الجبهة الأخرى التي كنت موجودة فيها حينها. لكنّني  صمتُّ. شعرتُ بالخوف وصمَتّ.

«هل تعرفين معنى أن تَقتلي، من دون أن تكون تلك رغبتُك بالضرورة؟ أن تقتلي كي تعيشي، أو ربما أن تقتلي من دون أن تعرفي لماذا، وكأن الأمر تحوّل مجرّد عادة تشبه أن تستيقظي صباحاً، وتُعدّي فنجان قهوتك، وتتصفّحي الأخبار؟». انهالَ عليّ بسيل من الأسئلة، من دون أن ينتظر مني أي جواب بالطبع.

لم يكن يراني. على الأغلب كان يرى أشباح رفاقه الذين اضطُرّ إلى تركهم يموتون وحيدين، في واحدة من ليالي الحرب القاسية الباردة، على جبهة بعيدة ما، لينجو هو بما تبقى من جسده.

بعد الإصابة التي شلّت حركته، تغيّرت نظرته تماماً لكلّ شيء.

كان مؤمناً ذات يوم بجدوى الحرب، لكنّه اليوم لم يعد يعرف جدوى أيّ شيء. «لماذا قاتلنا، ولأجل من؟»، يتمنّى لو يجدُ إجابة شافية تعطي بعض المعنى لخساراته الكبيرة، لجلوسه أيّاماً متتالية على كرسيّه؛ في منزله الصّغير في إحدى ضواحي المدينة وهو ينتظر اللّاشيء، لحصوله على بعض المساعدات «التّافهة» كما يصفها، المخصّصة لجرحى الجيش، لأنه لا يملك وسائل كثيرة يعين بها نفسه وعائلته.

لم تعد لديه الكثير من الأحلام كما يقول لي. «أن أعاود المشي، هو أكثر من حلم بعيد المنال، هذا أشبه بغيمة بعيدة لستُ قادراً على الإمساك بها».

هو يريد فقط أن يعرف إجابة عن سؤال واحد: «لماذا خضنا هذه الحرب؟ ولماذا خسرنا ما خسرناه إلى الأبد؟».

****************************************

في تلك اللّيلة، جلسنا طويلاً أنا وهو.

كان ذلك منذ ستّ سنوات تقريباً، في واحدة من ضواحي دمشق.

الكهرباء مقطوعة. أصوات القصف بصواريخ الرّاجمة الجاثية على إحدى التلال المقابلة تُسمع بوضوح، وتتخلّلها أيضاً - من حين إلى آخر - أصوات قذائفِ هاون ترتطم بأسطح الأبنية المجاورة. لم أكن أشعر بخوف كبير، فالقبو الذي كنّا نجلس فيه عميق بما يكفي لحمايتنا من الشّظايا والزّجاج والحجارة المتكسّرة، لكنّه لن يحمي آذاننا من الأصوات الرّهيبة. لا مشكلة.

بين القذيفة والأخرى، تخترق الهدوءَ أصواتُ سيارة إسعاف وأناسٍ يصرخون وهم يحملون بعض الجرحى من مكان قريب. لا نأبه، ونكمل حديثنا، لقد اعتدنا الأمر إلى درجة مخيفة، ومزعجة.

شابّ ثلاثينيّ، متوسط الطّول، نحيل، له لحية طويلة إلى حدّ ما، وشعر أسود خفيف مع بداية صلع واضح على جانبي الرأس.

«أتعرفين؟ أحياناً أسأل نفسي: لماذا نخوض هذه الحرب؟ ضدّ من؟ ولأجل من؟ لكنّني لا أجرؤ على طرح السؤال بصوت مرتفع، فأحتفظ به لنفسي»

لم يكمل تعليمه. بعد الصفّ العاشر، بدأ بمساعدة والده في محلّ الخضار الذي كان يمتلكه في السّوق الأساسيّ للمنطقة التي يعيش فيها. لم يعرف يوماً سوى تلك المهنة، وكان يخطّط قبل أن تبدأ الحرب للزواج، إذ شرع ببناء غرفة إلى جانب منزل والديه، وقد «وضع عينه على ابنة الجيران»، أي قرّر أن يخطبها عندما تحين الفرصة. جاءت الحرب وغيّرت كل شيء.

«كيف كان لي ألا أحمل السّلاح؟ مداهمات ومضايقات واعتقالات. قتل تحت التّعذيب. ومن ثمّ قصف يوميّ لا يرحم، وتدميرٌ لكلّ شيء. لا خيار لنا سوى أن ندافع عن أنفسنا وعن منازلنا بأيّ وسيلة كانت». قال لي.

لقد انضمّ إلى واحدة من كتائب الجيش الحرّ منذ عام تقريباً، واليوم يرابط يوميّاً على واحدة من الجبهات المباشرة التي تشهد اشتباكات عنيفة مع قوّات الجيش السّوري.

كانت عيناه شديدتي الاحمرار من السّهر والتعب، حين استرسل في الحديث. بدا كأنّه قد نسي وجودي، وقفت دمعة في زاوية العين اليسرى، لكنّها أبت أن تكمل طريقها. أعتقدُ جازمة بأنه يبكي حين يكون وحده.

«لا أحبّ أن أقتل، ولا أعرف إن كان هناك من يحبّ أن يقتل. أحياناً أحمد الله لأنّني حين أضغط على الزّناد لأطلق النّار، لا أرى وجه خصمي بوضوح. أخاف أن تلتقي عيناي بعينيه، وأن تقف إصبعي في منتصف الطّريق، فلا تكمل مهمّتها، ولا تحميني من موت محقّق».

يكمل، شارحاً أنّه لا يكترث للتّحقّق من جثث القتلى على الجبهة الأخرى بعد انتهاء أيّ معركة، بل يفضّل الانصراف إلى منزله، والاعتزال في غرفته لبعض الوقت.

«وماذا تفعل خلال السّاعات التي لا تكون فيها مرابطاً على الجبهة؟». يُفاجئه سؤالي، وكأنّه نسي الجزء الآخر من حياته، ومن شخصيّته.

«أذكرُ أنني رأيتكَ مرّات عدّة، وأنت تتجول بواسطة درّاجتك الهوائيّة لتوزّع بعض الأغراض على عائلات يحرمها القصف من الخروج من منازلها. هل ما زلت تفعل الأمر نفسه؟». يضحك بخجل وتضيق عيناه الجميلتان. لا يجيب.

حدّثني عن أحلامه، أو ما بقي منها: ابنة الجيران نزحت نحو المدينة منذ أكثرَ من عام، ولم يعد يعرف عنها أيّ شيء. محلّ والده دُمّر بالكامل بسبب القصف. يخاف من بناء أحلام جديدة، ويفضّل تأجيلها حتى تنتهي الحرب.

«أتعرفين؟ أحياناً أسأل نفسي: لماذا نخوض هذه الحرب؟ ضدّ من؟ ولأجل من؟ لكنّني لا أجرؤ على طرح السؤال بصوت مرتفع، فأحتفظ به لنفسي».

ينهكه التعب، فيغفو وهو جالس، رأسه متكّئ على الحائط المجاور، ويده تمسك البندقيّة وكأنّها تحتضنها.

تحديث: أصيب هذا المقاتل مرّتين أثناء المعارك على الجبهة التي كان يقاتل فيها، ومنذ أكثرَ من عامين لا أعرف أيّ خبر عنه.

صورة المقال: (صوت سوري)


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها