× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

شعوب وزلازل: تشيلي والتحول إلى نمط البناء المرن

عقل بارد - شعوب وحروب 25-04-2023

في تاريخ سوريا الطبيعية الممتد إلى آلاف السنوات، حضرت الزلزال ضمن علامات المنطقة البارزة، إذ لا يكاد يمضي بضع عشرات من السنوات، وأحياناً أقل، حتى يشهد السكان زلازل مختلفة الشدة. وبعد قرون وزلازل كثيرة، عرف الناس أن هذه البلاد تقع على تخوم صفيحة أرضية تتحرك كلما عنّ على بالها!

الصورة: (زلزال تشيلي 2010 / Maco - فليكر)

كثيراً ما يتكرر القول إن «الزلازل لا تقتل الناس لكن المباني المنهارة تفعل ذلك».

عرفت المنطقة السورية الواصلة تاريخياً حتى نهاية ما يسمّى حالياً الصفيحة العربية عشرات الزلازل منذ ما قبل الميلاد.

كان «زلزال أنطاكيا» الذي وقع العام 115 ميلادي من أقدم الزلازل التي حظيت بتوثيق تفصيلي، مع ما تلاه من «إعادة إعمار».

في ذلك الوقت سُوّيت بعض مناطق «سوريا الرومانية» بالأرض، خاصة في أنطاكيا واللاذقية وتدمر. ويذكر المؤرخ الروماني كاسيوس ديو أنّ «زئيراً هادراً تبعته هزّة هائلة قلبت الأرض قلباً وطارت الأبنية في الهواء».

اللافت أنّ بعض المباني والقلاع نجت من تبعات الزلازل مهما تكررت، وإن تضررت جزئيّاً في بعض المرات، منها قلاع تحدّت فعلاً عوادي الزمن، مثل المرقب والحصن وحلب وغيرهما، وهذا قد يكون مؤشراً على اهتمام بنائي ذلك الزمان بمسألة الدمار الذي يحدثه أي زلزال، لكنّ دماراً طاول غيرها من الأوابد قد ينفي هذا الرأي.

بالطبع، لم تكن سوريا وحدها التي عاشت أو ستعيش مثل هذه الأحداث، فهناك عشرات الدول ومئات حول العالم تعيشها دوريّاً، من اليابان شرقاً إلى تشيلي غرباً.  

ولأن هذه الدول تعيش في منطقة خطرة دائماً، طوّرت - خلافاً لسوريا ومحيطها - تقنيات تساعد في التخفيف من كوارث الزلازل وتبعاتها، وبعض هذه التقنيات لا يحتاج كثيراً من الجهد والمال. من ثم، وبعدما كان عدد الضحايا يُسجل بالآلاف بات أقل من ذلك بكثير.

تطورت هذه التحديثات التقنية والمعمارية من التدقيق في عمليات بناء قواعد المباني وميلانها، وصولاً إلى مساهمة الأشجار الملحوظة في التخفيف من آثار أي تسونامي يتبع الزلزال عادةً في المناطق المفتوحة على المحيطات. كذلك هناك نوعية المواد المستخدمة في البناء، وكلها خضعت لتطوير كودها الهندسي والمعماري وصولاً إلى اتباع أقسى الإجراءات بحق المخالفين.

من التجارب اللافتة في مجال الزلازل تجربة اليابان، وهي الأكثر إضاءة في عالم المعمار، لكنّ تجربة تشيلي، الدولة الأميركية الجنوبية التي تتعرض دائماً للزلازل، لافتة هي الأخرى، فقد تغيّرت كثيراً في غضون الأعوام الخمسين الأخيرة وأعطت نتائج واضحة. يلحظ ذلك بالمقارنة بين نتائج زلزال 1960 وزلزال 2010، وكلاهما كان كارثياً بكل معنى الكلمة.

تاريخ زلازل تشيلي وما حولها

تحتل تشيلي مساحة واسعة من أميركا الجنوبية، ويطل ساحلها الغربي بطول 6,435 كلم على ما يسمّى عالمياً حزام المحيط الهادي الذي يشمل تقريباً كل سواحل المحيط الهادي، أكبر محيطات الأرض، يسمّى الحزام حول العالم «حزام النار»، شكله يشبه حدوة حصان بطول 40,000 كيلو متر، ويشهد نشاطاً زلزالياً وبركانيّاً كثيفاً.

جيولوجياً تقع تشيلي على صفيحة أميركا الجنوبية، وتحدّها من الغرب صفيحة نازكا التي تنخفض تحت ساحل تشيلي. فتتعرض البلاد للزلازل دائماً، وبعضها يمكن أن يكون قوياً للغاية إلى درجة كارثية. 

من بين أقوى الزلازل تاريخياً وفقاً لتقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية يبرز زلزال فالديفيا في أيار/مايو 1960، وأيضاً زلزال شباط/فبراير 2010 في مولي، وكلاهما في تشيلي، وفاقت شدة كلّ منهما حدّ 8.0 ميجاوات (مقياس Mw يسمّى مقياس مقدار الشدّة اللحظية Magnitude Moment فيزيائياً، ويمثل إجمالي الطاقة المتحررة من الزلزال التي تُحدّد من مقدار تحرك الصخور ومدى تحركها، ويساوي تقريباً مقياس ريختر، ولكنه أكثر دقة منه).

Embed from Getty Images

قبل عقدين من زلزال فالديفيا، في 24/1/1939، ضرب زلزال قوي آخر بشدة 7.8 منطقة نوبل، وهي أغنى منطقة زراعية في تشيلي، على بعد 400 كيلومتر جنوب العاصمة سانتياغو. وقع هذا الزلزال في الساعة 11:32 مساءً بالتوقيت المحلي، أي مع اقتراب موعد نوم غالبية السكان، وبلا مقدمات. 

كان مركز الزلزال على بعد نحو 32 كيلومتراً شمال تشيلان، عاصمة المقاطعة، ويعتقد أنه حدث داخل صفيحة نازكا، وقد امتد الدمار عبر مساحة تبلغ نحو 45 ألف كيلومتر مربع. دمّرت الصدمة الأولى نحو نصف المباني في تشيلان، وتعرّض عدد منها للهزات الارتدادية، فيما قُتل نحو ربع السكان. وبعد لحظات، دُمر نحو 95% من منازل كونسبسيون البحرية مع وصول الاهتزاز إليها. 

انقطعت الكهرباء، وتأثرت إمدادات المياه بشكل كبير، واندلعت الحرائق واستمرت لأيام، وخرج نظام الترام عن الخدمة لأسابيع. وبسبب الوقت المتأخر الذي ضرب فيه الزلزال وانعدام الإنذار المسبق، كان عدد الضحايا مرتفعاً. تختلف التقديرات على نطاق واسع، لكن من المحتمل أن نحو عشرة آلاف شخص قد لقوا حتفهم، وجرح ستون ألفاً، وتشرد مئة ألف. 

في أعقاب زلزال تشيلان، أعلنت الأحكام العرفية وأُرسل الجيش لمنع النهب والإشراف على محاولات الإنقاذ. ثم وجّه الصليب الأحمر جهود الإغاثة الفعالة. 

الطبيعة حين تغضب.. حرفياً!

يبلغ عدد الزلازل التي تُسجل سنويّاً حول العالم نحو نصف مليون زلزال. (نعم، الرقم صحيح!)، لكنها تكون متفاوتة الشدة، نحو 100 ألف منها يمكنك الشعور بها، ومئة فقط يمكن أن تكون ذات أثر ضار أو مدمر. يُعد زلزال فالديفيا (1960) أقوى زلزال جرى تسجيله القرن الماضي، وقد بلغت شدته وفق هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (U.S.G Survey) MW 9.5.

كان زلزالاً «نموذجياً» في منطقة اندماج الصفائح، وحدث قرب الشاطئ على عمق بؤري يبلغ نحو 33 كلم وقرابة 900 كلم جنوب العاصمة التشيلية، سانتياغو.

استمر الاهتزاز عشر دقائق تقريباً، وتمزّق أكثر من 1609 كلم من الصدع على طول منطقة الاندساس في واجهة نازكا وصفائح أميركا الجنوبية، وهي واحدة من أطول التمزقات المبلغ عنها مطلقاً. تلت الزلزال تسع هزات بشدة أكبر من سبعة ميغاواط، فيما استمرت ارتدادات الزلزال الضعيفة شهراً.
ذكرت وكالة «أسوشيتد برس» أن تسجيل إبر مقياس الزلزال في عاصمة الأرجنتين، بوينس آيرس، «قفز على ورقة التسجيل في بداية الزلزال إلى حد لم يتمكن العلماء معه من تسجيل الاهتزاز». وعلى بعد أكثر من مئتي كيلومتر من مركز الزلزال، تسبب الاهتزاز في انهيار بركاني في بحيرة أرجنتينية، وبعد 47 ساعة تسبب في ثوران بركان بوييهو في جبال الأنديز، جنوب تشيلي. 

برغم كل ذلك، يبدو أن عدد الضحايا لم يتجاوز ألفين، ويُفسر هذا أن كثيراً من السكان كانوا خارج بيوتهم، خاصة أن الزلزال استُبق بسلسلة هزات.
كان هناك دمار في جميع أنحاء تشيلي، ولا سيما على طول الساحل من كونسبسيون إلى جزيرة تشيلوي.

على سبيل المثال، تعرضت مدينة بويرتو مونت للدمار، وتحوّلت قرية تولتن بالكامل تقريباً إلى أنقاض. تم تدمير أو إتلاف نحو 145 ألف منزل، وصارت نصف المباني في فالديفيا غير صالحة للسكن. كما دمّرت الانهيارات الأرضية الحصون الإسبانية الاستعمارية في فالديفيا وأدت إلى سد الممرات المائية في جميع أنحاء وسط تشيلي. 

أعاقت الفيضانات الكبيرة والاضطرابات خدمات الاتصالات وجهود الإنقاذ والإنعاش. وبعد عشر دقائق إلى خمسة عشر من الهزة الرئيسية، وصل تسونامي إلى الشاطئ بالقرب من ليبو، وكان ارتفاع الموج يصل إلى 25 متراً. أثر تسونامي في نحو 800 كيلومتر من ساحل كونسيبسيون إلى الطرف الجنوبي من جزيرة تشيلوي، ونُقل الحطام مسافة تصل إلى ثلاثة كيلومترات إلى الداخل في بعض الأماكن.

أثرت كارثة تسونامي في جزء كبير من حوض المحيط الهادئ، ولحقت أضرار بالمباني وفقدت الأرواح في مناطق بعيدة مثل هاواي واليابان. وقدّرت شركة AIR أنه في حالة حدوث زلزال فالديفيا اليوم بالقوة نفسها، فإن قيمة الخسارات المؤمن عليها الناتجة مباشرة عن أضرار الاهتزازات ستفوق 18 مليار دولار أميركي دون حساب بقية الأضرار غير المباشرة.

زلزال مولي 2010

في الساعات الأولى من يوم 27/2/2010، ولثلاث دقائق تقريباً، ضرب واحد من أكبر الزلازل التي تم تسجيلها من جديد مساحات واسعة من تشيلي. بلغت قوته 8.8 درجة على مقياس ريختر، وكان أقوى 500 مرة من زلزال هايتي الذي ضرب الأخيرة قبل ذلك بأسابيع، كما شعر بقوته السكان عبر مساحة شاسعة من جنوب ووسط تشيلي، ودمر المنازل والجسور والسكك الحديدية والطرق.

بعد 18 دقيقة، اجتاحت أمواج بارتفاع ستة أمتار من المحيط الهادئ السواحل حتى مصب نهر مولي، وحطمت في لابوزا منطقة كونستيتسيون المواجهة للنهر. تسبب الزلزال وتسونامي في مقتل أكثر من 500 في تشيلي، ربعهم في كونستيتسيون.

لوائح البناء وأكواد مقاومة الزلازل

تم تقديم أول لوائح بناء في تشيلي لتحسين أداء الهياكل في عشرينيات القرن الماضي في أعقاب سلسلة من الزلازل المدمرة. كانت المباني التي دمرها زلزال تشيلان من البناء غير المدعوم وسبق بناؤها تلك الإجراءات، لكن إعادة البناء بعد زلزال 1939 كانت تحكمها تلك اللوائح. أسست الحكومة التشيلية تجمعَ شركات لتعزيز النمو الاقتصادي ودعم الانتعاش في مناطق الزلزال، في أوّل تحرك حكومي تنموي بعد الكارثة.

على سبيل المثال، أعيد بناء كاتدرائية تشيلان التي دمّرها زلزال 1939 في الخمسينيات من القرن الماضي مع مراعاة مقاومة الزلازل، فنجت من زلزال فالديفيا العام 1960، وزلزال مولي العام 2010 مع عدد قليل من النوافذ المكسورة، وفق هيئة المسح الجيولوجي الأميركية.

قد تتشقق الأبنية أو تميل إلى النقطة التي يعلن فيها أنها غير صالحة للاستخدام لكن يجب ألا تنهار

تعلمت السلطات في تشيلي من كل كارثة كبرى، وأدخلت تدابير جديدة، وحسّنت التعليم العام (الهندسة) على أنه نقطة البدء الأساسية في التعاطي مع نتائج الزلزال نفسها من دمار المنازل وتصدعها. وكما جرى تحسين قوانين البناء الزلزالية في أعقاب زلزال 1960، تم تحديثها مرة أخرى بعد زلزال 2010 الذي تسبب في دمار في الأجزاء الجنوبية والوسطى من البلاد حيث انهارت الآلاف من المباني المبنية من الطوب، وحتى بعض المباني التي التزمت ممارسات البناء الحديثة ولم تنج من الأضرار.

بعد التحذير غير الكافي من كارثة تسونامي المدمرة التي أعقبت زلزال 2010، تم تعزيز الإجراءات الحكومية ووضعت بروتوكولات للاستجابة المشتركة. في النتيجة، تتمتع تشيلي اليوم بسمعة ممتازة في قدرتها على مقاومة الزلازل، لكن الوصول إلى هذه النتيجة استغرق نحو قرن من العمل.

ما فعلته حكومات تشيلي المتتابعة أنها وضعت مجموعة من أشد قوانين البناء صرامة في العالم، فلعشر سنوات بعد تشييد مبنى جديد، يرى القانون التشيلي المالك الأصلي للمبنى مسؤولاً عن الأضرار والخسائر التي يمكن أن تُعزى إلى انتهاكات القانون، حتى إذا تغيرت ملكية المبنى. أيضاً تجب الموافقة على خطط البناء للمباني العامة مثل المدارس والمستشفيات والمباني التي يزيد ارتفاعها عن خمسة طوابق من قبل مراجع مستقل (شركة خاصة أو شركة دراسات). 

لعبت هذه التدابير دوراً رئيساً في الحد من أضرار الممتلكات، والخسارة في الأرواح في زلزال مولي.

اتخذت بلدان أخرى في المنطقة خطوات مماثلة للحد من أضرار الزلازل. ففي البيرو، تهدف متطلبات التصميم الصارمة السارية منذ 1997 إلى منع الأضرار التي لحقت بالمدارس والمباني العامة الأخرى من الزلازل. 

وفي كولومبيا، تفرض قوانين البناء الأخيرة عمليات تفتيش شاملة أثناء البناء لضمان الامتثال للكود.

يمكن أن تختلف تفاصيل قوانين البناء وكيفية تنفيذها وإنفاذها بين البلدان، وحتى على المستوى الإقليمي داخل البلدان. كما تختلف ممارسات البناء أيضاً بين الدول. مثلاً يمكن أن يكون مبنى سكني من أربعة طوابق من الخرسانة المسلحة في بلد ما أكثر مقاومة للزلازل من مبنى آخر في بلد آخر، حتى لو كان الهدف من كلا المبنيين تحمّل المستوى نفسه من اهتزاز الأرض.

في تشيلي، جرى تصميم قوانين البناء الحالية لضمان بقاء الهياكل الجديدة حتى مع زلزال بقوة M9.0، وهذه الأبنية قد تتشقق أو تميل إلى النقطة التي يعلن فيها أنها غير صالحة للاستخدام لكن يجب ألا تنهار. لقد أنقذت هذه الإجراءات أرواحاً لا تعد ولا تحصى. والنتيجة تقييم إقليمي لثغرات المباني بما في ذلك كيف تغيرت هذه الثغرات بمرور الوقت، وهي تشكل حجر الزاوية لتقدير الضرر في نماذج البناء المحدثة.

في المحصلة، أدى زلزال ليوكيكو بقوة M8.1 العام 2014، وزلزال آخر في العام 2015 وسط تشيلي بشدة M8.3 مصحوباً بتسونامي إلى مقتل ستة، ثم خمسة عشر شخصاً على التوالي فقط، وهما رقمان صغيران قياساً بشدّة الزلزالين، في حين أنّ زلزالي شباط/فبراير في سوريا وتركيا كانا بشدّتين أقل، وأسفرا عن قتل ما لا يقل عن خمسين ألفاً في تركيا، وستة آلاف في سوريا!


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها