× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

إعادة الإعمار على النهج التشاركي في تشيلي.. اللامركزية كانت حاضرة

عقل بارد - شعوب وحروب 25-05-2023

جاء زلزالا شباط في سوريا (وتركيا) ليؤكدا الحاجة الماسّة إلى المشاركة المجتمعية في إدارة الدولة في حدودها الإدارية المختلفة، من الحارات وصولاً إلى الأقاليم الحضرية. هذه الحاجة اتضحت جليّةً في الاندفاع المجتمعي لمعالجة كارثة الزلزال أسرعَ من الحكومة وإجراءاتها البيروقراطية بأشواط، فلولا هذه الاندفاعة، لكان عدد الضحايا والخسارات أكبر

الصورة: (العمل في إحدى ساحات كونستيتسيون عام 2013 /Cristobal Escobar-فليكر)

قدّمت كارثة زلزالي شباط نموذجاً لافتاً لقدرة المجتمع على التدخل الإيجابي العفوي، برغم كل التراكمات التي قوّضت مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة شونها على مدار عقود. فمثلاً، بعد أكثر من عقد ونصف على إقراره، لا يزال القانون 107/2007 الخاص بالإدارة المحلية معطّلاً فعلياً، مع أنه من وجهة نظر مشرّعين سوريين وغير سوريين من أفضل القوانين الإدارية لجهة شموله كثيراً من مفاصل الإدارة المحلية بنهج تشاركي مع المجتمع، يجعل من هيمنة السلطة في حد أدنى، كما يخفف الأعباء عن الدولة نفسها لجهة دفع نفقات مستمرة لخدمة المجتمع، فضلاً عن انتقال المجتمع من مرحلة «متلقي الفعل» به إلى الفاعل في خدمة قضاياه التنموية بطريقة مستدامة

هناك عدد من المدن والبلدات والقرى السورية عاشت تجربة مختلفة مع الكارثة، فظهرت فيها تدخلات عفوية نجحت في إدارة الكارثة إلى حد كبير. ورغم انتهاء مرحلة الإسعاف، وهي الأولى في مراحل أي كارثة، لا تزال نشهد تدفقاً لبعض هذه التجارب على الأرض، ليس بالمعنى الإغاثي بل التنموي، وهو ما يشير من جديد إلى الحاجة إلى حضور المجتمع ودوره.

هذه التجارب التي بقيت في حالة زلزالي سوريا ضمن إطار أهلي ومحلي ليست الوحيدة التي يعرفها الناس في أماكن أخرى من العالم شهدت ظروفاً مماثلة. نستعرض هنا تجربة ناجحة لمدينة بعيدة جداً عن سوريا، استطاعت التعافي من كارثة زلزال أقوى من زلزالنا بمئات المرات بفضل تعاون مستمر بين السكان المحليين والشركات الخاصة والحكومة.

تجربة كونستيتسيون

يحيل اسم المدينة (Constitución) كما هو ظاهر إلى اسم القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية قروناً عدّة. فعلى اسمها القديم، سمّى المهاجرون الإسبان الكاثوليك أوّل موضع استيطان لهم في تشيلي في هذه المنطقة العام 1572.

حسب السجلات التاريخية الزلزالية تعرّضت المدينة التي بات عدد سكانها الآن خمسين ألف نسمة، وتتبع محافظة مولي، لعدد من الكوارث، مثل زلزال وتسونامي 2010، الذي أدّى إلى أضرار كبيرة في تشيلي بأكملها، وسقوط 500 ضحية. أما آخر زلزال تعرضت له المدينة فكان بقوة 6.2 درجة، أواخر 11/2020، ولم يسفر عن أضرار. 

بمقارنة نتائج زلزالي 2010 و2020، تظهر فعالية الإجراءات التي نُفذت بين الكارثتين، فقد نجحت المدينة التشيلية في التعافي من آثار التسونامي الذي ضربها في 2010، وهذا التعافي يُعزى إلى تعاون المجتمع المحلي والشركات الخاصة والحكومة.

تسبب زلزال 2010 في سقوط ضحايا ربعهم في كونستيتسيون، ومع عدم وجود كهرباء أو مياه نظيفة، كانت مرافق الإسعافات الأولية في المدينة بدائية. فكان لا بد من نقل الجرحى إلى تالكا، العاصمة الإقليمية، أو العاصمة الوطنية سانتياغو على بعد مئتي ميل تقريباً، في وقت كانت كلتا المدينتين تعاني من تأثير الزلزال.

من آثار تسونامي كونستيتسيون 2010 / Natalia Espina - فليكر

التشارك لإعادة التعافي

للمصادفة البحتة، في سانتياغو، وقبل أيام من الزلزال، جرت تسمية إيكان أندريس إياكوبيلي وكيلاً لوزارة الإسكان في تشيلي، وهو مهندس حضري خبير، وقبل أن يضع قدميه داخل المكتب، واجهت البلاد مهمة إعادة بناء ضخمة.

مدركاً أن الدولة بمفردها لا تستطيع أن تعيد البناء وتحتاج إلى مساعدة من القطاع الخاص، تحدث إياكوبيلي إلى كبرى شركات المدينة، وأبرزها Arauco، وهي شركة كبيرة توظف آلاف العمال في كونستيتسيون، وإلى صديقه وزميله السابق أليخاندرو أرافينا، المهندس المعماري في شركة Elemental المتخصصة في مشاريع الإسكان الاجتماعي. ثم في وقت قصير بدأت تظهر خطة إعادة بناء كونستيتسيون.

ظلت كونستيتسيون بدون كهرباء خمسة أيام، وبدون مياه جارية عشرين يوماً، وأُغلقت البنوك الخمسة في المدينة لشهر، فلم تكن هناك خدمات ولا عمل، أي كانت المدينة ميتة.

وافقت Arauco على تمويل «خطة إعادة الإعمار المستدامة»، المعروفة باختصارها الإسباني PRES إذ ستشرف Elemental على تنفيذ الخطة، لكن باستشارة من السكان المحليين لأن مشاركة المواطنين ذات أهمية قصوى. كما جلبت Elemental شركة استشارية لتقديم المشورة بشأن هذا النهج التشاركي.

جاءت مساهمة الدولة من الحكومات المحلية والإقليمية، بالإضافة إلى وزارة الإسكان في سانتياغو، وحدد الفريق هدفاً: مئة يوم لإعداد خطة التعافي. وجرى تخصيص ميزانية PRES بمبلغ 150 مليون دولار، 70% منها ستأتي من الدولة.

في وقت مبكر من هذه العملية، بنت Elemental منزلاً مفتوحاً في الساحة الرئيسة للمدينة وتأكدت من عرض خططها الدائمة التطور هناك، إذ بوسعِ أي شخص الدخول وإلقاء نظرة وتقديم اقتراحات. كانت هناك اجتماعات منتظمة دُعي إليها سكان المدينة.

من أكثر المشكلات إلحاحاً وحساسيةً هي ما يجب فعله حيال منطقة لابوزا، التابعة للمدينة، التي تحملت العبء الأكبر من تسونامي، وتعيش هناك أكثر من مئة عائلة، فقد معظمها منازله. أراد البعض إعادة البناء في المكان نفسه، فيما أراد آخرون الانتقال بشرط بيع قطع أراضيهم. 

بشكل غير رسمي، كان هناك آخرون يعيشون في المنطقة وليست لديهم قطع أراضٍ لبيعها، وهؤلاء كانوا صيادين أرادوا البقاء بجانب النهر حيث عملوا وحيث عاشت عائلاتهم لأجيال، كما كان هناك عدد قليل من العائلات الغنية التي لديها عقارات ممتازة على واجهة النهر وكانت أيضاً مترددة في التحرك.

جاءت Elemental بثلاثة خيارات: أولاً يمكن ترك الأرض المدمرة بوراً، وهو الحل الأسهل والأسرع والأرخص، وثانياً بناء جدار وقائي بين المصب والمدينة، ويمكن بعد ذلك إعادة الإسكان في لابوزا، مع بناء منازل خلف الجدار، وثالثاً مصادرة لابوزا وتحويلها إلى غابة، فتعمل الأشجار كحاجز ضد موجات المد في المستقبل. 

دُعي مواطنو كونستيتسيون للتصويت على هذه الخيارات. كان الجدار الوقائي خيار شركات البناء الكبرى المفضل لأسباب واضحة إذ كان يتعين عليهم تشييده وبناء المنازل خلفه. لكن تجربة تسونامي اليابانية العام 2011 أظهرت أن الجدران الواقية لا يمكنها تحمل قوة الطبيعة فلا تعمل دائماً. من ناحية أخرى، لا تحاول الغابة مقاومة قوة تسونامي بل تبدد التأثير بدلاً من ذلك، وكان من المنطقي في مواجهة التهديدات الجغرافية إيجاد حلول جغرافية.

بقدر ما كانت الكارثة عميقة الأثر، قدّمت فرصة نادرة لحل واحدة من أكبر مشكلات المدينة، وهي التلوث

على أساس توافق الناس، صادرت الدولة جزيرتي لابوزا وأوريغو، والأخيرة قطعة أرض تقع في المصب المقابل مباشرة، بتكلفة 20 مليون دولار، وبدأ العمل على نحت أرضية غابة متموجة لزراعتها بأشجار الصنوبر والأوكالبتوس، وقد كان التموّج مقصوداً للتخفيف من أثر الموجات.

حسب التقديرات ستبدد هذه الأشجار والتلال بين 40% و 70% من قوة أي تسونامي في المستقبل، كما سيجري بناء طرق هرب مُنارة بالإضاءة الفولتية الضوئية عبر الغابة حتى يتمكن الناس من الخروج بسرعة إذا حدثت كارثة أخرى. وستخدم الغابة أيضاً غرضاً آخر هو زيادة المساحة العامة في مدينة مكتظة. 

نمضي معاً لحل المزيد

بقدر ما كانت الكارثة عميقة الأثر، قدّمت فرصة نادرة لحل واحدة من أكبر مشكلات المدينة، وهي التلوث الناتج عن مطاحن الخشب التي أقيمت في زمن سابق في قلب المدينة، وكانت الروائح التي تصدرها بشعة ومصدر إزعاج للسكان.

صاحبة هذه المطاحن هي الشركة نفسها التي تساهم في تمويل إعادة التخطيط الحضري للمدينة، Arauco، وهذه الشركة توظف كذلك ثلاثة آلاف شخص مباشرة وعشرة آلاف بشكل غير مباشر، ما يعني أنّ ربع سكان المدينة يعتمدون على الشركة في معيشتهم، ولهذا هي صاحبة القوة الأكبر في تقرير مصير التلوث، وهي أيضاً صاحبة مصلحة في حلها.

في الأسابيع التي أعقبت كارثة تسونامي، جادل بعض السكان بأن هذه الفرصة المثالية لنقل طاحونة الخشب خارج كونستيتسيون، لكن الشركة لم توافق على هذا الحل، بحكم أنه مكلف جداً لها، فحصل توافق على حلول أخرى تستجيب لرغبات الطرفين، تكفلت الشركة إنفاقَ عشرة ملايين دولار لتقليل الروائح من المصنع، كما قررت معالجة مشكلة ضوضاء النقل واستخدام البخار الزائد من المصنع لتسخين سلسلة من حمامات السباحة في الهواء الطلق تقرر بناؤها على الواجهة البحرية. 

أدّت هذه التنازلات إلى تحسين علاقة الشركة بالمجتمع. حتى إن الشركة فتحت أبوابها للزوار من أهل المدينة. ومع تسارع وتيرة الانتعاش، حددت Elemental المباني العامة التي تجب إعادة بنائها أو تشييدها من الصفر لتعزيز المدينة وتقوية خدماتها، بما في ذلك محطتا الإطفاء والحافلات، إضافة إلى مسرح عام ومدرسة ومكتبة عامة ومركز ثقافي، ومرة أخرى جرت استشارة سكان المدينة حتى التوافق على كل القضايا العالقة.

مع هذا النهج التشاركي، ظهرت مشكلات لم تكن مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالزلزال والتسونامي، فقد أشار السكان المحليون إلى أن المدينة تعاني من الفيضانات كل عام، وأن هذه المشكلة في الواقع أكبر من التسونامي المدمّر المحتمل أن يضرب مرة واحدة كل جيل. ومن أجل تقديم الحلول دمج المهندسون المعماريون سلسلة من البحيرات والحواجز في خطط واضحة من شأنها تخفيف الفيضانات في المستقبل.

أفكار خارج الصندوق

السكن بطبيعة الحال مشكلة ملحة في أي كارثة، وقبل الكوارث أيضاً، وليس للمتضررين المباشرين فقط بل لمن تقرر السلطات لاحقاً إخلاء منازلهم بسبب التصدعات. في تشيلي، خصصت الحكومة أموالاً للسكن الحكومي: لكل منزل عشرة آلاف دولار (أميركي)، ولكن هذا المبلغ ليس كافياً هناك لإقامة نصف منزل، وحتى في سوريا. (لمحبي المقارنات، هذا المبلغ كان يعادل في العام نفسه، 2010، نصف مليون ليرة سورية).

تفتقت فكرة ناتجة من ضعف المال، وهي بناء منازل ذات مساحات صغيرة (40 متراً مربعاً) تتضمن مطبخاً مفتوحاً يمكن استخدامه صالة جلوس، وحماماً وغرفتي نوم، والميزة أنه يمكن توسيع هذه المنازل على حساب أصحابها ضمن نموذج موحد بأقل تكلفة، لتصبح ضعف هذا الحجم تماماً.
استندت الفكرة إلى شراكات بين القطاعين العام والخاص: تدفع الدولة مقابل النصف الأساسي من المنزل، ويُتاح للمالك بعد ذلك توسيعه على نفقته الخاصة، وإضافة المزيد من غرف النوم. وهذا التصميم استخدمته Elemental في أماكن أخرى في تشيلي وأثبت شعبيته، وهو مشابه للنماذج المتداولة عالمياً (المسبقة الصنع) لكنه قابل للتوسيع ليصير دائماً.

توضح التجربة التشيلية أن لا شيء مستحيل أمام العقل، وأنه متى توافر القرار السياسي الصحيح، الناتج من مشاركة كل ذوي المصلحة في أي مشكلة وُجدت حلول مبتكرة، وفي هذه المدينة تحديداً مُنح السكان دوراً محورياً في عملية التعافي، وجمعت العمليات المتتابعة للتعافي جميع أصحاب المصلحة في قطار واحد أثمر أنه في زلزال 2020 لم يكن هناك ضحايا أو أضرار كبيرة.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها