جُمان أرجوان
«لم أرغب بإنجاب طفل آخر. كان زوجي يستعد للسفر للعمل في الإمارات وليست لدي قدرة الاعتناء بطفلين، فقررنا إجهاض الجنين، وهذا ما فعلناه»، بهذه الكلمات تلخّص رُبا رحلة إجهاضها. ورغم أنّ الطبيب قام بإعطائها دواء للإجهاض، فإنه لم يؤتِ مفعوله، ليقرر إجراء عملية.
تقول السيدة إن طبيبها وافق على إجراء العملية لأنه يعرف ظروفها، وتتابع: «زوجي كان حاضراً، وكان قرارنا مشتركاً».
حال رُبا التي تمكّنت من إتمام الإجهاض بسبب «ثقة الطبيب» لا تنطبق على الجميع. فإلهام التي رفض طبيبها إجراء الإجهاض لجأت إلى إحدى صديقاتها بغيةَ العثور على طبيب آخر يساعدها. تقول وهي أم لثلاثة أطفال: «أوضاعنا المعيشية صعبة جداً، ولسنا قادرين على تحمل تكاليف طفل جديد، فكان خيارنا الإجهاض».
تشير إلهام إلى أن العملية «كلفتنا 350 ألف ليرة سورية استدانها زوجي، وهذا أخف علينا من التكاليف الباهظة للإنجاب، وثمن الحليب في حال لم أتمكن من إرضاعه، وغيرها من مستلزمات الطفل».
من المعروف أن عمليات الإجهاض غير قانونية في سوريا، ولذلك تُجرى معظم هذه العمليات داخل عيادات الأطباء في الخفاء خوفاً من العقوبات، الأمر الذي يصعّب تحديد نسبة الإجهاضات في هذا المجتمع.
مع ذلك، تؤكد مصادر طبية ارتفاع نسبة هذه العمليات «إلى مستوى غير مسبوق». يقول الطبيب المختص بالجراحة النسائية في جامعة دمشق، هيثم عباسي، إن «عمليات الإجهاض تضاعفت خلال السنوات العشر الماضية بنسبة ألف في المئة»، مضيفاً خلال حديث إذاعي: «لا إحصاءات دقيقة لكن هناك ازدياد واضح».
في القانون والشريعة
الإجهاض من القضايا التي أفرد لها القانون السوري ستة نصوص واضحة تعاقب المرأة والطبيب اللذين يقدمان على هذه الخطوة من دون عذر، وتعتبر العملية «جناية»، وتحدد العقوبة وفق المواد 527 و528 و529 و530 من قانون العقوبات العام بالسجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات لأي امرأة تجهض نفسها، ولكل من يساعد في الإجهاض بأي وسيلة. وقد تصل عقوبة الطبيب في حال أدى الإجهاض إلى وفاة المرأة إلى السجن من أربع سنوات إلى سبع.
«لو كُتبت تقارير في جميع الحالات التي ترد إلى المستشفيات لنساء يحاولن الإجهاض لامتلأت السجون بالنساء»
تُبين المواد القانونية التي سبق ذكرها أن العقوبات تطاول المرأة وطبيبها حتى في حال موافقتها على الإجهاض بإرادتها. وفي العكس، يشدد القانون عقوبة الطبيب، التي قد تصل إلى 10 سنوات من السجن أو أكثر في حال تسبب الإجهاض وفاة المرأة. ورغم حزم النصوص القانونية في هذه القضية، فإن المادة 531 تمنح المرأة ومن يساعدها عذراً مخففاً، خصوصاً إذا كان دافع الإجهاض «المحافظة على شرفها».
لناحية الشريعة الإسلامية في الحالة السورية، فإن النظرة مختلفة إلى حد ما، إذ لا توجد نصوص شرعية واضحة حيال الأمر، ما دفع إلى الاعتماد على اجتهادات الفقهاء، التي أباحت الإجهاض للضرورة في الأشهر الأربعة الأولى، وحرّمته بعد هذه المدة. وتكاد «الضرورة» المشار إليها في اجتهادات الإباحة تقتصر على المضار الصحية التي قد يسببها الحمل والولادة، أو «الخوف على السمعة».
يعتقد الفقهاء أن الروح تُنفخ في الجنين بعد إتمامه 120 يوماً، علماً أن هذا التشريع كان معمولاً به في سوريا خلال الحكم العثماني حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما أقدم العثمانيون على استمداد قانون للعقوبات من التشريع الفرنسي سنة 1858، ومنعوا بموجب المادتين 192 و193 منه الإجهاض مطلقاً بصرف النظر عن عمر الجنين، وفق ما تؤكد الموسوعة العربية في دمشق.
رغم استمرار العمل بالمرجعية الفرنسية القديمة في سوريا، فإن باريس تخلّت عن هذه القوانين. إذ سمحت منذ 1975 بالإجهاض في الأسابيع العشر الأولى من الحمل، قبل تمديد الفترة إلى 14 أسبوعاً العام 2021، مع تحمّل الضمان الاجتماعي الفرنسي جزءاً من تكاليف عمليات الإجهاض.
ليست فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تسمح بالإجهاض ضمن ضوابط معينة، فالسويد وهولندا وإنكلترا واسكتلندا تسمح أيضاً. أما الولايات المتحدة التي كانت تشرع الإجهاض على مدار نحو 50 عاماً، فيدور جدل كبير حالياً في هذا الخصوص بعدما ألغت المحكمة العليا الأميركية العام الماضي «حق الإجهاض».
في الحالة العربية، تونس هي الدولة الوحيدة التي تسمح بالإجهاض في الأشهر الثلاث الأولى، وفق قانون يعود إلى 1973.
«لامتلأت السجون بالنساء»
تلجأ معظم النساء اللواتي لا يرغبن في الإنجاب إلى طرق التفافية، لناحية الاستعانة بأطباء، أو تناول أدوية وأعشاب تسبب الإجهاض بعيداً عن الرقابة الطبية. من هؤلاء صفاء التي رفض طبيبها إجراء إجهاض قبل أن تخبرها إحدى صديقاتها بأن طبيبها وصف لها دواء تناولت بضع حبات منه دفعة واحدة، وأدى بعد مرور بضع ساعات إلى إجهاضها.
تقول صفاء (23 عاماً) التي تزوجت العام الماضي: «لا نرغب أنا وزوجي في الإنجاب حالياً. نريد أن نبني حياة أولاً ثم الإنجاب».
يلجأ كثير من الأطباء، وفق طبيب مختص بالجراحة النسائية، في البداية إلى الحلول الدوائية التي تؤدي إلى الإجهاض في كثير من الأحيان. وفي حال تعثر الأمر يليها اللجوء إلى العمليات البسيطة التي تكون في هذه الحالات قانونية كون الجنين فارق الحياة بفعل الدواء وباتت العملية ضرورية، فيضمن الطبيب عدم تعرضه للمساءلة.
يشير الطبيب نفسه إلى أن نسبة كبيرة من الأطباء تقبل إجراء الإجهاض في حال حضور الزوجين معاً، وفي بعض الأحيان يقبلون لدواعٍ إنسانية أمام إصرار بعض النساء، في حين يستغل كثرٌ الأمر لإجراء عمليات مقابل مبالغ طائلة.
تروي صفاء أنها تناولت الدواء فعلاً وفق توصية صديقتها، لكنها بدلاً من أن تجهض بشكل طبيعي شعرت بألم كبير ونزيف حاد، ما دفع زوجها إلى إسعافها إلى المستشفى حيث أجريت لها عملية مستعجلة أنقذت حياتها. وتضيف: «الطبيب الذي أجرى لي العملية أخبرني أن ما قمت به كاد يحرمني الإنجاب». لكن هذا الطبيب لم يقدم على كتابة أي تقرير، «وعندما سألته عن السبب، ابتسم وقال لي: لو كُتبت تقارير في جميع الحالات التي ترد إلى المستشفيات لنساء يحاولن الإجهاض لامتلأت السجون بالنساء»، وفق قولها.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0