× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

الموسيقا الكُردية: إرثٌ منعَ زوال أمّة؟

عقل بارد - على الطاولة 27-10-2023

رغم السياسات المتبعة لقمع الشعب الكردي، والتضييق على لغته في سوريا ودول المنطقة، بل وحتى أغنياته عبر كبح انتشارها، أفلحت اللغة الكردية في البقاء حية، ومتداولة، ولو اختلفت اللهجات الشفوية. وكان للموسيقا والغناء دور محوريّ في ذلك

تقول إحدى المرويات عن الشعوب المضطهدة والمظلومة إنها غالباً ما تتمسك بتراثها وفنونها - لا سيّما الغناء - للحفاظ على نفسها ووجودها، خاصة أن الموسيقا لا تتطور دون إنتاج معرفي، والحامل اللغوي يلعب هنا دوراً محوريّاً. 

تنهض الذخيرة اللغوية للأقوام جميعها على حاملين: الأول اللغة الرسمية في المراسلات والتدوين والتعليم، وهذه بقيت مفقودة لدى كورد سوريا حتّى اليوم، فهي على المستوى الرسمي ليست لغة معترفاً بها دستورياً. الحامل الثاني هو المنطوق الشفوي، أي اللهجات. وبرغم اختلاف اللهجات بين الكورد تبعاً للانقسام الجغرافي بين أربع دول (سوريا، العراق، تركيا، إيران)، فإن تبادل الأغاني وانتقالها من مكان إلى آخر ساهما في إزالة قسم كبير من الغموض حول تلك اللهجات.

لعبت العولمة والإنترنت دوراً ريادياً في ذلك، بفضل تسهيل إيصال الأغاني ورواجها، فتأثير اللغة المنتقلة من مكان إلى آخر عبر الأغاني يؤكد العلاقة المتينة بين الحياة الاجتماعية واللغة.

كان بقاء اللغة الكردية حيّة نتيجةً لحفاظ الكورد على العلاقة الطّردية المباشرة بين السوسيولوجيا واللغة في النظام الاجتماعي. والأغنية الكردية، والشعر الغنائي، والقصص المختلفة هي الأساس الذي حافظ على الكردية من الاندثار، خاصة أن تلك الفنون انتقلت من جيل إلى آخر عبر التداول الشفوي، ثم التدوين.

بالتزامن مع ذلك، استمر تمسك الكورد بالعزف على مختلف الآلات الموسيقية كالبزق والطنبور والمزمار والناي والطبل، إلى درجة القول إنه لا يكاد يخلو بيتٌ كُردي من آلة الطنبور أو البزق، كونهما معاً يشكلان العمود الفقري للموسيقا الكردية التقليدية، وما دخل عليها من مُحدثات وتطوير في العزف ليتلاءم مع الحداثة الموسيقية.

لاوك، حيران، بايزوك...

كانت أغنيات الكورد قديماً تحفل في غالبيتها بتصوير المآسي ومشاهد الدمار والفناء الذي لحق بقراهم وبلداتهم، فيما ينقسم الغناء الكردي إلى ثلاثة أجزاء: المُنشد، الشعر، القصص المروية. أما الموسيقا الكردية الكلاسيكية، فلها شكل خاص يؤدَّى بين الحشود مساءً في مضافة القرية أو مكان تجمع الناس. 

عُرفت الأغاني الشعبية التي تتحدث عن الطبيعة والرجولة والشباب وجبال كردستان والملحميات البطولية للكورد بـــ«اللاوك/ Lawik». أما أغنيات الـ«حيران/ Heyran» فهي المتخصصة بالحب والفراق وعذابات العشاق، خاصة قصص الحب المستحيلة بينهم. 

كذلك برع الكُرد في الأغاني الصوفية التي سُميت «اللاوجي»، والأغاني الفصلية المتعلقة بفصل محدد كأغاني «بايزوك»، أي الخريف، كما تحضر الأغاني الأيروتيكية التي تدور حول الجنس ووصف تفاصيل جسد المرأة.

الظواهر الاجتماعية نتاج العقلين الفردي والجمعي معاً، وتطويع اللغة في نشر الأغاني والآداب جعل من ثالوث القصة والغناء والشعر أشبه بـ«العقد الاجتماعي» العابر للجغرافيا

لأن الكورد لم تقم لهم دولة مستقرة ودائمة، مع وقوعهم في قلب الصراع الصفوي-العثماني، خاصة مع معركة جالديران والاتفاق الذي تلاها (العام 1514)، ومعارك قصر شيرين، ثم معاهدة زهاب (العام 1639)، كان من الطبيعي أن يتأخر نضوج وتطور مفهوم «الأمة الكردية». كما كان طبيعياً أن تدخل إلى القاموس الشفوي الكردي مصطلحات ومفاهيم وكلمات من لغات أخرى، عبر التأثر بالأقوام المجاورة، خاصة المسلمة.

هكذا تعددت اللهجات الكردية ونشأت بعض الاختلافات بينها تبعاً للوسط السياسي والاجتماعي والجغرافي الذي أُلحقوا به، ولذلك نجد مصطلحات ومرادفات عربية دخلت في الشعر والغناء الكردي خاصة دواوين أحمدي خاني وملاي جزيري وغيرهم.

في المقابل، نجد أن الموسيقا الكردية دخلت موسيقا شعوب المنطقة، على أيدي الملحّنين الكرد الذين عاشوا وسط تلك الشعوب، خاصة أن مقامات الموسيقا الشرقية احتوت على مقامين كُرديين هما كورد، ونهاوند كورد.

«عقد اجتماعيّ» عابر للجغرافيا

بطبيعة الحال لعب الانفتاح والعولمة دوراً كبيراً في العصر الحالي في تزايد التشبيك وتبادل التأثير والتأثر الموسيقي، وصار من الصعب تحديد الأصل الدقيق للأغنية والموسيقا ما لم تُفكك الكلمات ومعانيها، وتُتتبع خيوط الأغنية والشعر والموسيقا المستخدمة لمعرفة وتحديد الأصل، فشعوب المنطقة متجاورة، ومتداخلة منذ آلاف السنين.

رغم الخصوصية العميقة في الثقافة الاجتماعية والقيم والفلكلور الكردي خاصة من ناحية الدبكات والفرق الفنية المشاركة في المناسبات القومية والأغاني والإيقاعات، فإن كُل الشعوب في المنطقة عاشت متشابهة في نواحٍ عديدة، لا سيما أن المجتمعات الريفية تجمعها تقاطعات حتى في طرق التفكير وأنماط العيش، ما أسهم في تمازج الأغاني والموسيقا بشكل طبيعي.

يمكننا تناول مثال معاصر، هو تجربة الفنان كربيت خاجو (1907-2005) وهو واحد من أقدم المغنين للمواويل الشعبية بالكردية، واللافت أنه ليس كُردي الأصل، بل أرمني عاش في كنف أسرة كردية أنقذت حياته إبان مذابح الأرمن. وبعد تمكنه من الهرب تعلم الكردية منذ طفولته وغنى مئات المواويل والأغاني الكردية. ويقول خاجو في مقابلة تلفزيونية إن أغانيه بقدر ما هي باللغة الكردية فإنها أرمنية أيضاً.

الغناء علاقة تشابكية بين الظاهرة الاجتماعية، واللغة، والنظام الاجتماعي، والعادات والتقاليد والآداب والفنون، وتنشئة الأجيال على فكرة قومية معينة، وتشكل اللغة رابطة بين كل هذه القضايا والظواهر.

كما أن الظواهر الاجتماعية نتاج العقلين الفردي والجمعي معاً، وتطويع اللغة في نشر الأغاني والآداب جعلت من ثالوث القصة والغناء والشعر أشبه بـ«العقد الاجتماعي» منذ غابر الأزمان، وكثير من التعبيرات الشفوية والمدونة تحول إلى أغنيات مرفقة بموسيقا حديثة، انسجاماً مع التطورات الاجتماعية في عموم سوريا.

جاء هذا التطور بعدما كان يُتلى بصيغ غنائية ووصفية، فتوسعت دائرة المغنين بالكردية والعازفين الكرد المشاركين في الفرق الموسيقية بمختلف تخصصاتها، دولياً أو محلياً، إضافة إلى تبوُّء الشباب صدارة الغناء الكردي في المناسبات والحفلات الخاصة والقومية، بعدما استفادوا من هوامش إزالة القبضة الأمنية على تسجيل وتوزيع الموسيقا والغناء، ومن عصر الفضاءات الرقمية المفتوحة.