× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

الشارع السوري وغزّة: «قول للزمان ارجع يا زمان»

عقل بارد - على الطاولة 04-01-2024

بين آثار حرب طاحنة بما تركته من أضرار جسدية، واقتصادية، ونفسية، وبين انعكاسات المواقف الإقليمية في الملف السوري، وتأثير السردية السورية الرسمية، يجد الشارع السوري نفسه شبه منعزل عن الإبادة الجماعية الدائرة في غزّة. نضيء هنا على أبرز مواقف الناس في مناطق سيطرة دمشق بعد ثلاثة أشهر من «طوفان الأقصى»

الصورة: (وقفة في دمشق دعماً لغزة في تشرين الأول الماضي / متداول على فايسبوك)

لا تزال المسيرات المليونيّة التي شهدتها مدن سورية عديدة العام 2008 تضامناً مع غزّة ماثلةً في أذهان البعض حتى اليوم، لكنها باتت مجرد ذكرى بعيدة يبدو أن تكرارها صار ضرباً من الخيال. فبعد ثلاثة أشهر من الإبادة الجماعيّة ضد الفلسطينيين ولا سيما في قطاع غزة يبدو الشارع السوري في وادٍ آخر تماماً، من دون أن تغيّر الأمر بضع مظاهرات متفرقة في الأيام الأولى وبمشاركة أعداد محدودة، فما الذي تغيّر؟ بل ربما كانت الصيغة الأدق: «ما الذي لم يتغيّر»! 

«الدولة الساكنة» رغم ما كان متوقعاً منها في ظروف كهذه وصف رئيسها في لقائه الشهير مع قناة «سكاي نيوز» الإماراتية في العاشر من آب/أغسطس الماضي حركة حماس بما معناه أنها «مزيج من غدر ونفاق»، ويبدو أن التصريح الذي سبق «طوفان الأقصى» بنحو شهرين لم يكن عابراً مُعدّاً للاستهلاك الإعلامي، بل أرضيةً تُوجّه علاقة دمشق بالقضية الفلسطينية برمّتها، فلا الحدود السورية تحولت إلى ساحة مواجهة حقيقية، ولا طهران نجحت في ثني دمشق عن موقفها، بل ربما لم تحاول ذلك أصلاً ما دامت سلّتها مليئة بالامتيازات في الإقليم وإن دُمّر بأكمله، وقد خبر السوريون ذلك قبل غيرهم بكثير، و«كثير» تعني هنا بلداً مُدمّراً! 

لكن ماذا عن الشارع؟ كيف يرى الأمر؟ وكيف تلاشت سريعاً المفاجأة الممتزجة بالبهجة وربما القلق التي فرضت نفسها في السابع من تشرين الأول / أكتوبر؟ أسئلة ليس من السهل أن تحظى بإجابات بسيطة، غير أنها تُفضي بالمحصلة إلى شبه خُلاصة مفادُها «نحن وين؟ وغزة وين؟»!

تيارٌ لا مبالٍ

يُمكن تمييز ثلاثة آراء رئيسة في مناطق سيطرة دمشق مما يجري في فلسطين اليوم، أوّلها يخلط الموقف من الإبادة الجماعية بالموقف من «حماس»، ويُحملها تبعات «تغير كل شيء» على خلفية موقفها في الملف السوري، وانحيازها إلى جانب المعارضة ومحور داعميها ولا سيما تركيا، وقطر.

تقول شابة عشرينية: «كيف سأتفاعل مع شيء لا أعرف عنه شيئاً؟ بالكاد نعرف فلسطين على الخريطة، أما غزة فلم أكن أعرف موقعها.. نحن جيل يريد أن يهاجر لا أن يحارب»

عند أصحاب هذا الموقف سمعنا عبارات من قبيل «حماس قتلت أخي»، «لقد قتلونا في أرضنا، فهل علينا أن نُقتل ثانية لأجلهم؟»، «أعطينا حماس كل المال والدعم والسلاح فقاتلونا بها، وكفّرونا على منابرهم، كيف سنسامح»؟ 

بينَ.. بين!

كان ملحوظاً على امتداد الشهور الثلاثة الماضية أن بعض السوريين والسوريات يتعاملون مع القضية بمنطق «المضطر» إن صحّ التعبير، ويتضح ذلك من حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خاصية «القصص» تحديداً، إذ ينشرون صورةً للتطورات في غزة، وبعدها مباشرة صورة ليومياتهم المشبعة بالبذخ أو النشاطات.

بدا الأمر غريباً بعض الشيء ما دفعنا لسؤال الأكاديمي في علم النفس مؤيد حجّار الذي رأى أن كثيراً من هؤلاء «ينتمون إلى جيل الألفية الحالية، حين بدأت الحرب في سوريا كانوا أطفالاً، فلا هم فهموها، ولا الظروف أتاحت لهم فهم خصوصية الصراع التاريخي في الجوار».

ويضيف: «يجد هؤلاء أنفسهم أمام مسؤولية أخلاقية ويحاولون التعبير بطريقة ما، لكن فعلاً ماذا يعرفون عن الصراع؟ هؤلاء لم يبكوا أسابيع حين استشهد محمد الدرّة، ولم تكد تنفجر أعصابهم في الانتفاضة الثانية، ولا سمعوا ما سمعناه من آبائنا عن الانتفاضة الأولى».

تلقت الطالبة الجامعية مريم عسّاف كثيراً من الانتقادات حول منشوراتها، فأغلقت حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي. تقول الشابة العشرينية: «طيب كيف سأتفاعل مع شيء لا أعرف عنه شيئاً؟ بالكاد نعرف فلسطين على الخريطة، أما غزة فلم أكن أعرف موقعها».

وتضيف: «أنا لست مكترثة بصراحة». تُسلم الشابة بأن مشاهد الموت مؤلمة، ولكنها تُحاجج بأن الموت حاضر في سوريا بكثافة، وبأن بعض أقاربها خُطفوا وقُتلوا في الحرب. «هل يجب أن يشرب جيلي حزن الكون بأكمله؟ نحن جيل يريد أن يهاجر لا أن يحارب»، تقول.

«حيّ على السلاح»

في هذا التيار يسهل تمييز اتجاهين: الأول استعراضي يحمل جينات «التربية العسكرية»، و«الاجتماعات الحزبية»، ويؤمن بأن 2024 ستكون كما كانت 2010، يتبنى نظريات المؤامرة و«خطة بندر»، و«مقلوبة الأسد».أما الآخر فيؤمن بمقولة: «لن تضحك دمشق حتى تبكي تل أبيب»، لكنه يشعر أنه بلا حول ولا قوة.

«لو تُعلن تعبئة عامة سأكون أول الفدائيين في فلسطين المحتلة، نحن قادرون على التحرير، ولكن عتبك على أنظمة عربية بقاء إسرائيل أنفع لها من رحيلها»

«أحاول ألّا أشاهد التلفاز منذ مدة»، يقول المتقاعد معين نصيرات، ويتابع: «كلّما شاهدت مناظر الموت في غزة بكيت كما الأطفال، أريد سلاحاً فقط، كلّ ليلة أستمع لأم كلثوم تغني "أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم"، ولكن لا بندقية لديّ ولا أحد يريد أخذنا لنقاتل هناك، هل أُطلق النار من سطح منزلي إلى السماء غضباً؟».

فيما يقول الموظف سائر عليني: «لو تُعلن تعبئة عامة سأكون أول الفدائيين في فلسطين المحتلة، سنعود شهداء أو محررين، عالم بأكمله يشاهد خيبتنا وجبننا، ونحن قادرون على التحرير، ولكن عتبك على أنظمة عربية بقاء إسرائيل أنفع لها من رحيلها».

أما المهندسة لمياء فتقول بانفعال: «أليس هناك سوى حميدة الطاهر وسناء محيدلي؟ بلى هناك الآلاف والآلاف، نحن فقط نريد الأمر والطريق والسلاح، كم مرة سيعيش الإنسان؟ علامَ كل هذا الذل؟ نحن أهل الدم، وما يحصل في غزة سيتكرر مستقبلاً ما لم نقطع دابره اليوم».

«معلش.. هذه المرة»

ثمة سؤال يفرض نفسه هُنا: هل كانت المواقف لتأتي كما هي اليوم فيما لو سألنا الأشخاص أنفسهم عن مشاعرهم في حرب تموز 2006 أو حرب غزة 2008-2009 في حينها؟ يمكن الجزم بإجابة قاطعة: لا!

فهل يمكننا اختصار أسباب التحوّل بالمثل الشعبي: «الميت لا يحملُ ميتاً؟»، على الأرجح نعم. فمن يتقاضى بضع دولارات شهريّاً لا تكفي لسد الرمق رغم أنه يعمل في وظيفتين أو ثلاث، وسقف طموحه ألا يتعرض للخطف أو التشليح وهو عائد لمنزله ليلاً، الذي قد تكلفه أدوية الزكام كامل راتبه، هذا «المناضل» على أي جبهة بالضبط سيقاتل؟

قد يُمكن تلخيص كل ما سبق بعبارة على لسان أحد من التقيناهم: «منزلي ركام ولا أملك ثمن إطعام أولادي من أجل فلسطين التي ظللنا نقاتل لأجلها أربعين عاماً. معلش.. لتسامحنا هذه المرة أولوياتنا لا تحتمل».