كش ملك
الصورة: (من جنازة أوغستو بينوشيه 2006 / Javier Bobadilla Micheletti - فليكر)
في الرابع من أيلول/سبتمبر 2022، رفض الناخبون التشيليون بنسبة 62% اعتماد مسوّدة دستور تقدّمية للغاية. وفي العام التالي، رفضوا بنسبة 55,7% نصاً آخر كان أكثر تحفظاً، ما وضع حداً لعملية تغيير الدستور التي بدأت العام 2019، أو أنه علّقها على أقل تقدير. كان الأمل في التغيير كبيراً، فالبلاد تعيش في ظل ديمقراطية منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً... وإنّما أيضاً في ظل دستور ذي أصول دكتاتورية.
تعدّ تشيلي واحدة من الدول النادرة في العالم التي اختارت استعادة الديمقراطية مع الحفاظ على الدستور الذي كتبه الحكام المستبدون. وقد جرى هذا الاختيار بهدف واحد: تهدئة التحوّل الديمقراطي. فقد كان رحيل العسكر عن السلطة دون اشتباكات أو عنف مشروطاً بالحفاظ على الهياكل القانونية والاقتصادية الرئيسة التي أنشؤوها.
كانت البلاد قد شهدت تحوّلات عميقة في ظل الديكتاتورية التي قادها أوغستو بينوشيه بين العامين 1973 و1990. فانتهجت دروس ما يسمى بـ «مدرسة شيكاغو» الاقتصادية وأنشأت اقتصاداً نيوليبرالياً قاد إلى تقويض الخدمات العامة الأساسية. وقد وُضِع التعليم والصحة ومعاشات التقاعد في أيدي الشركات الخاصة، ما ترك دوراً فرعياً بحتاً للدولة. للحفاظ على هذا النموذج الاقتصادي، اعتُمِد دستور في استفتاء مزوّر العام 1980، كان هدفه وفق بينوشيه إقامة «ديمقراطية محمية».
لم يُخفِ هذا التعبير المضلل حقيقة أنّه لم يكن هناك شيء من الديمقراطية بين 1980 و1989، وأنّ الهدف الضمني كان يتعلق بإبقاء القوات المسلحة في قلب عملية صنع القرار من أجل ضمان الحفاظ على النموذج الاقتصادي. بعد رحيل بينوشيه العام 1990، أزيلت «الجيوب الاستبدادية» الرئيسة من النص، من خلال إصلاحات دستورية كان أبرزها إصلاح العام 2005 في عهد ريكاردو لاغوس، الذي جعل من الممكن وضع حد لنظام أعضاء مجلس الشيوخ مدى الحياة.
لكن رغم هذه التعديلات كلها، ظلّت روح دستور بينوشيه قائمة. ومن خلال حماية الحقوق الاقتصادية للأفراد بصورة أفضل من حماية الحقوق الاجتماعية، وتكريس حق الملكية على المياه، وتعقيد إجراءات القوانين التي يمكن للدولة التدخل في الاقتصاد من خلالها، شكل الدستور التشيلي درعاً هائلة حول النموذج الاقتصادي النيوليبرالي.
فهم أفضل للعمليات التأسيسية
على عكس ما قد يعتقده المرء، فإنّ العمليات التأسيسية، أي العمليات التي تسمح بتطوير دستور جديد تماماً، لا تزال غير مدروسة إلى حد كبير في حقل الدراسات القانونية. ولعلّ إحدى الخصائص الرئيسة للعملية التأسيسية التشيلية هي رغبتها في إشراك الشعب قدر الإمكان في مرحلة صياغة النص. ففي مواجهة دستور غير شرعي منذ ولادته، كان من الضروري تطوير دستور ديمقراطي تماماً والتأكد من أنّ الشعب كتب دستوره الخاص.
يُرجَّح ألا يتم التحوّل الدستوري التشيلي الذي طال انتظاره من خلال نص جديد تماماً، وإنّما من خلال المراجعات الدستورية التدريجية، وبطريقة تكاد تكون غير محسوسة
عادةً ما تكون الطريقة الأبسط لتحقيق ذلك هي المشاركة غير المباشرة، أي من خلال انتخاب ممثلين في الجمعية التأسيسية. لكن لم تكن السلطات الانتقالية تريد فقط أن تكون هذه الجمعيات التأسيسية ممثلة للمجتمع الحالي قدر الإمكان، وإنّما أرادت أن يكون للشعب أيضاً الحق في المشاركة المباشرة في صياغة النصوص المختلفة. وللقيام بذلك، جرى انتخاب مجلسين بالاقتراع العام المباشر: الأول يسمى المؤتمر الدستوري، ويتألف من 155 عضواً؛ ثم بعد رفض النص الذي صاغه، تشكلت لجنة ثانية تسمى المجلس الدستوري، مكوّنة من 51 عضواً.
قاد المؤتمر الدستوري إلى زيادة تمثيل الشعوب الأصلية، إذ تم تخصيص 17 مقعداً لها. وفي المجلسين، يمكن لأي مواطن تقديم مقترحات بشأن القواعد الدستورية. وإذا جمعوا ما يكفي من التوقيعات الداعمة، واستوفوا معايير رسمية معينة، فمن الممكن أن تدرس المقترحات من قبل الغرف، وربما يتم دمجها في النص النهائي.
قد يبدو هذا النهج التشاركي مثالياً على الورق، ولكن جاءت نتائجه مخيبة للآمال، إذ تُظهر التجربة التشيلية صعوبة تنفيذ الإجراء التشاركي لصياغة الدستور حتى عندما يأتي الطلب من الشارع، وتشجعنا على تصور آليات جديدة أكثر فعالية من أجل تشجيع وتسهيل هذه المشاركة. أما الدرس الثاني الذي يمكن استخلاصه من هذه التجربة فهو امتداد للأول ولكنه أكثر خطورة، لأنه يدور حول التشكيك في مدى أهمية عرض مشاريع الدساتير على الاستفتاء.
وفق دراسة أجراها الباحث ألكسندر هدسون، جرت الموافقة على 94% من الاستفتاءات التأسيسية في جميع أنحاء العالم بين العامين 1789 و2016. وخلال هذه الفترة نفسها، لم ينتهِ التصويت إلى «لا» سوى في 11 استفتاءً تأسيسياً، ما يجعل من الاستفتاءين التشيليين في 2022 و2023 الاستثناءين العالميين الـ12ـ والـ13.
القدرة على الابتكار في صياغة الدساتير
بعيداً عن التصوّر الأفضل للعمليات التأسيسية، فإنّ التجربة التشيلية تعلمنا الكثير عن ماهية الدستور وما يمكن أن يكونه. لا ينبغي للاستفتائين المخفقين أن يقللا من حقيقة أنه خلال هذه العملية، تمكنت البلاد من صياغة مسوّدتي دستورين، وثلاثة مشاريع دستورية: مشروع دستور العام 2022، والمشروع الأولي لدستور 2023 الذي أعدّته مجموعة من الخبراء المعينين من البرلمان، ومشروع دستور 2023 للمجلس الدستوري. ومن هذه النصوص المختلفة، يمكن تعلم درسَين اثنين:
الدرس الأول هو النطاق الابتكاري للدساتير الجديدة. فإذا قارنا هذه النصوص الثلاثة، نرى أنها مقترحات مختلِفة تماماً في ما بينها، لا من حيث التوجه السياسي فحسب (مشروع 2022 يتضمن سياسة اقتصادية لإعادة التوزيع الاجتماعي، بينما مشروع 2023 يحافظ على النموذج الاقتصادي النيوليبرالي ويحميه)، ولكن أيضاً من حيث الأصالة. وعلى هذا النحو، فإنّ مشروع 2022 هو المشروع الأكثر تميّزاً ويمكن أن يشكل مصدر إلهام، سواء للدساتير التشيلية المستقبلية أو للدساتير الأجنبية المستقبلية.
الدرس الثاني هو في المكانة التي يحتلها التكافؤ في تنظيم النظام المؤسسي. يقترح مشروع 2022 لأول مرة إقامة ديمقراطية تكافؤية. ولتحقيق بذلك، يفرض شرط التكافؤ على الهيئات الجماعية في الدولة، وبالتالي ليس فقط على البرلمان والحكومة، ولكن أيضاً على المحكمة الدستورية ومحاكم العدل والبنك المركزي، وحتى الأجهزة الأمنية والجيش. ولم يقترح أي دستور في العالم مثل هذا النوع من إعادة التنظيم للمؤسسات السياسية والعامة.
من مظاهرات 2019 في تشيلي / photo.pavletic-فليكر
كذلك؛ ينبغي أن يثير الرفض الواضح لهذا الدستور التساؤلات. ولا يزال من الصعب تحديد الأسباب الدقيقة لهذا الرفض، خاصة أنّ من بين الإصلاحات المقترحة بعض الإصلاحات التي ليست مجرّد ابتكارات، مثل تكريس دولة متعددة القوميات تعترف بحقوق أكبر للشعوب الأصلية. ثم يُطرح السؤال حول مدى قبول الابتكارات نفسها، إذ هل يمكن لشعب أن يريد مثل هذا التحوّل لنفسه؟
إنّ مسألة الدستورية التحويلية هذه، والتي نوقشت بصورة خاصة في بلدان الجنوب، تبدو سلاحاً ذا حدين في مراحل الانتقال الديمقراطي، فمن جهة تحمل وتعد بقدرات عظيمة على تحويل مسار دول خارجة للتو من حروب أهلية أو من ظلال أنظمة استبدادية، ولكنّها من جهة أخرى تخلق خوفاً وفزعاً لدى المجتمعات غير المعتادة على أنساق التحوّل الجذري بعد عقود من الركود الفكري والسياسي الذي عاشته.
أيضاً تلفت التجربة التأسيسية التشيلية النظر إلى قوة القصور الذاتي للدستور، فالتغيير الدستوري لا يعني بالضرورة تغييراً جذرياً. وإذا قمنا بفحص ومقارنة المسوّدات الثلاث والمسوّدات الأولية للدستور بالنص الدستوري المعمول به حالياً، سنرى أن الثوابت لا تزال قائمة. والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو خيار الإبقاء على نظام دستوري متطابق، أي نظام رئاسي يمنح رئيس الجمهورية، المنتخب بالاقتراع العام المباشر، صلاحيات مهمة بما في ذلك سلطة وضع القانون.
وكان قد جرى النظر في مسألة العودة إلى الحكم البرلماني ضمن المؤتمر الدستوري، ولكنها رُفضت سريعاً. ففي الواقع، تحافظ هذه النصوص الثلاثة على «غرفة المحرّك» سليمة، أي توزيع السلطات داخل المؤسسات السياسية الرئيسية. لكن هذا من أهم عناصر قصور الدستور، لأننا نعرف من التجربة صعوبة تحقيق تغيير حقيقي في ممارسة السلطة.
يُرجَّح ألا يتم التحوّل الدستوري التشيلي الذي طال انتظاره من خلال نص جديد تماماً، وإنّما من خلال المراجعات الدستورية التدريجية، وبطريقة تكاد تكون غير محسوسة. لن تسمح هذه الفرضية للبلاد بطي صفحة الديكتاتورية بالكامل، لكنها ستُمكّن من الاستجابة جزئياً لمطالب متظاهري تشرين الأول/أكتوبر 2019، وهذه الاستجابة ستكون انتصاراً في حد ذاتها بالفعل.
إنّ النظر إلى السنوات الأربع من التفكير الدستوري التي شهدتها تشيلي باعتبارها هدراً، يبدو في نهاية المطاف مبالغاً به إلى حد كبير. فلن تشكّل مشاريع الدساتير التي صيغت، حتى لو لم يتم اعتمادها، مصدراً فريداً لتطوير الخيال الدستوري فحسب، بل إن تفصيلها ورفضها سمح لتشيلي بمعرفة نفسها، مؤسسات ومجتمعاً، بشكل أفضل.