× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

أطياف بول بوت: محاكمات الإبادة الجماعيّة في كمبوديا

عقل بارد - شعوب وحروب 20-04-2024

رغم أن الحرب الأهلية الكمبودية قد وضعت أوزارها قبل ربع قرن، فإن صفحتها المظلمة لم تطوَ نهائياً إلا قبل أقل من عامين، ولكن من دون أحكام تقريباً ولا مصالحات حقّة

الصورة: (عقب إصدار أول حكم بإدانة إحدى كبار شخصيات الخمير الحمر/Mio Cade-فليكر)

شهد تاريخ 22 أيلول/سبتمبر انتهاء محاكمة قادة «الخمير الحمر» في كمبوديا، مع تأكيد درجة الاستئناف الحكم الثاني بالسجن المؤبد بحق خيو سامفان، الرئيس السابق لدولة كمبوتشيا الديمقراطية – والناجي الوحيد من بين المتهمين. 

ستة عشر عاماً من التحقيق والجلسات والأحكام الابتدائية والاستئنافات، أُنفِق خلالها 330 مليون دولار، وصدر على إثرها ذلك القرار وثلاث تهم بحق ثلاثة مديرين تنفيذيين آخرين أقل أهمية كانوا على قيد الحياة وقت صدور الأحكام.

لعلّ هذا ما يفسّر سبب تراجع الحماس الأولي إلى حد كبير، وكذلك اهتمام الباحثين. فقد أدت التجربة إلى ظهور عدد كبير من المنشورات البحثية قبل بداياتها الشاقة، وفي خلال سنواتها الأولى، في مقابل عدد قليل جداً من المنشورات في المرحلة الأخيرة. ومع ذلك، فإن الأهمية التاريخية لمئات الجلسات العامة، ولما جُمِع من وثائق ومئات الشهادات الشفهية أو المكتوبة، تنطوي على قيمة كبيرة.

خلفيّة

كان النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد مرحلة تغيير جذري في كمبوديا، أي منذ حرب الاستقلال ضد الفرنسيين العام 1953، وحتى العام 1979 مع سقوط نظام الخمير الحمر. وهذه التسمية هي وصف أطلقه في ستينيات القرن الماضي الأمير نورودوم سيهانوك على خصومه، الحزب الشيوعي لكمبوتشيا (كما كان الشيوعيون يسمّونها).

مع العلم أنّ الخمير والخمير الحمر تسميتان يعود جذرهما إلى إمبراطورية الخمير الهندوسية والبوذية أو الإمبراطورية الأنغورية، التي سادت من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر في كمبوديا الحديثة.

في كمبوديا هذه سينشب بين العامين 1967 و1975 صراع بين سيهانوك، ثم الجنرال المنقلب عليه: لون نول، وبين أولئك المتمردين «الخمير الحمر» المدعومين من فيتنام الشمالية والجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (فيت كونغ).

كان زعيم الحزب الشيوعي لكمبوتشيا تو ساموث قد اختفى العام 1962، ليحل مكانه بول بوت، الذي سيزور الصين وفيتنام بعد أقل من عامين وقبل نحو عقد على وصفه في أحد الألقاب «الأخ رقم واحد» في كمبوتشيا الديمقراطية التي ستقوم في العام 1975 وتحيا دمويةً إلى 1979. وقد جاءت هذه الدولة على أنقاض نظام لون نول، جمهورية الخمير.

بين العامين 1975 و1979، سيقود الخمير الحمر سياسة شمولية في كمبوديا، من أجل تحقيق رؤيتهم الشيوعية الطوباوية للبلاد. لكن أيديولوجية النظام وتكتيكاته كانت متطرفة إلى درجة أنه استهدف جميع جوانب وشرائح المجتمع الكمبودي تقريباً ودمّرها، وكان مسؤولاً في نهاية المطاف عن مقتل ما يقدر بمليوني شخص من سكان البلد البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة في حينها (نحو 17 مليوناً حالياً).

في العام 1979، كان تحرير كمبوديا على يد الفيتناميين على خلفية «حرب الحدود»، بمثابة بداية الحرب الأهلية التي ستنتهي العام 1998. وكانت السلطات الكمبودية قد بدأت منذ العام 1997 بمفاوضات مع الأمم المتحدة من أجل تنظيم محاكمة المسؤولين التنفيذيين السابقين. وفي العام 2001، أصدرت الجمعية الوطنية الكمبودية قانوناً بإنشاء محكمة خاصة. وقد نُظمت المحاكمة بالاشتراك بين الأمم المتحدة والمحاكم الكمبودية بموجب اتفاق جرى التوصل إليه في العام 2003.

عندما شُكِّلت المحكمة بعد ثلاث سنوات من أجل معالجة الفظائع التي ارتكبها الخمير الحمر، توقع كثيرون أن يؤدي النموذج الكمبودي إلى تمكين الضحايا من فتح مسار جديد أمام المبادرات القضائية الدولية. ومع ذلك، فإن الواقع المحلي خاصة لناحية التدخل القضائي كان أكثر تعقيداً.

كمبوديا وجيرانها / Asia Pacific Curriculum

محاكمات بجرعات منخفضة

قد يبدو كتاب «محاكمات الخمير الحمر في السياق»، الصادر عن جامعة واشنطن في العام 2019، مليئاً بالوعود ويمثّل علامة فارقة في تأريخ كمبوديا والمحاكمات الدولية لجرائم الإبادة الجماعية.

يركز الفصل الأول على تجديد الذاكرة الوطنية. لم يكن هذا الأمر بديهياً، إذ حين شُكِّلت المحكمة شعر القضاة، بمن في ذلك الأجانب، بأنهم مجبرون على التوقيع على إعلان يضمن أن تحقيق العدالة يكون المقصود منه تعزيز «الانسجام الاجتماعي»، وهو مفهوم خاص بالأنظمة الاستبدادية. كما أن احتمال تبرئة بعض المتهمين، قد بدا مسبقاً أنه يتناقض مع الهدف المنشود المتمثل في إقامة ذاكرة وطنية موحدة.

أدى هذان الشاغلان إلى حصر لوائح الاتهام بخمس لوائح فقط (بدلاً من 25 كان يُفترض إصدارها في البداية). لم يكن ثمة شكوك في إثارة ذلك المشهد قلقَ كوادر الخمير الحمر السابقين، الذين كان بعضهم يشكل ركائز نظام ما بعد الشيوعية، بدءاً بزعيم حزب العمّال رئيس الوزراء هون سين الذي لا يمكن عزله. أيضاً كانت قائمة الجرائم التي ستوجه مقيّدة بشدة، وكذلك زمن ارتكابها.

مقارنة بالمحاكم الجنائية الدولية السابقة، ثمة ابتكاران في الحالة الكمبودية كان يمكن أن يؤديا إلى تعزيز ارتباط المحاكمات بالسكان: إمكانية تشكيل أطراف مدنية، والاستماع إلى العديد من الخبراء ومن الضحايا، لا الشهود فحسب. ولكن مع ذلك، كان هذا التعبير الحقيقي للأطراف المعنية جزئياً، وهو السبب في التأخير الهائل الذي لحق بالمحكمة وهدّد بجعلها تفقد أيّ معنى في مواجهة المتهمين القدامى. وهذا ما دفع لاحقاً إلى تقييد تعبير الضحايا والمشتكين تدريجياً.

أدت العيوب الإجرائية، لا سيما تدخل السلطة في القضاء المحلي وتفاقم شكل من أشكال المنافسة بين الضحايا، إلى ضياع فرصة تصفية الماضي على نحو جيد

أما الفصل الثاني، فهو الجزء الوحيد الذي يتناول بصورة مباشرة موضوع المحاكمات: الفظائع التي ارتكبها الخمير الحمر. ومع ذلك، فمن الغريب أنه بالكاد يستخدم نتائج الإجراءات القانونية، ويقوم فوق ذلك بإعداد ملخص سريع للمراجع الموجودة. ويتضمن ذلك على وجه الخصوص توضيح الدور المتباين لمراكز الاحتجاز التي جرى تحديدها وعددها 196 مركزاً.

أيضاً يضيء الفصل على مسؤولية المجتمع الدولي في المأساة التي أثارها الخمير الحمر. وفي الواقع، قد يقتصر هذا المجتمع عملياً على فيتنام والولايات المتحدة والصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). وقد ساهم آخر ثلاثة، كل على طريقته، في إطالة أمد الصراع لأكثر من عقد من الزمان بعد سقوط بول بوت في كانون الثاني/يناير 1979، وذلك من خلال دعم الخمير الحمر إما بشكل مباشر (الصين) أو بشكل غير مباشر. 

من جانبها، كانت فيتنام قد ساهمت في وصول الخمير الحمر إلى السلطة في نيسان/أبريل 1975، وكذلك فعلت الولايات المتحدة على مضض. ولم تبدأ المحاكمات أخيراً إلا بعدما سحبت الصين حق النقض ضد إنشاء المحكمة في مستهل القرن الحالي، وبعد فوات الأوان.

تستعرض الفصول اللاحقة رصداً وتحليلاً الوجودَ المتعرج لمحكمة ذات وضع هجين (نصف دولي، نصف كمبودي)، والمحاكم المتخصصة الأخرى (البوسنة، سيراليون، تيمور، إلخ). فقد طرح هذا التهجين العديد من المشاكل، ليست أقلها ضرورة الامتثال إلى قانون العقوبات الكمبودي.

إحباط

الأمر الأكثر خطورة، الذي كان سبباً في العديد من الاستقالات بين القضاة الأجانب، كان ذلك التدخل المستمر من جانب حكومة بنوم بنه، والذي أظهر القضاة المحليين على أنهم يخضعون لها. كما كانت هناك حالات فساد في الجانب الكمبودي.

خلفت هذه التناقضات نوعاً من خيبة الأمل، لا سيما في صفوف أهالي الضحايا. رغم أن هؤلاء كان لهم الحق في الكلام أكثر من أي محاكمة دولية سابقة، ولكن انحسر تدخلهم منذ العام 2010 بهدف تسريع المناقشات.

كانت هناك العديد من الإحباطات. فإذ أدرك العديد من الضحايا أن الوظيفة التصالحية للمحاكمات هي ضرورية لفتح حقهم في التعويضات المالية، كانت مهمة المحكمة تتمثل في دعم المشاريع الجماعية حصرياً (تنموية تخص القرى والمناطق الأكثر تضرراً). ومع ذلك، أُنشئت مؤسسة لدعم الضحايا بالتوازي مع هذا الإجراء.

علاوة على ذلك، كانت هناك حالات من التنافس بين المدعين، ونزاعات أكثر جوهرية: على سبيل المثال، لماذا استبعاد الخمير كروم (المولودين في فيتنام) من قضايا الإبادة الجماعية المعترف بها، والتي كانت مقتصرة على عرقية التشام والفيتناميين في كمبوديا؟

من متحف الحرب الكمبودية/Laura Barrio-فليكر

عيوب

لقد أدت العيوب الإجرائية، لا سيما تدخل السلطة في القضاء المحلي وتفاقم شكل من أشكال المنافسة بين الضحايا (الأطراف المدنية/المدعين البسيطين، والشهود المصرح لهم أو غير المسموح لهم بالتحدث أمام المحكمة، والمجموعات المعترف بها على أنها موضوع الإبادة الجماعية، وغيرها)، إلى ضياع فرصة تصفية الماضي على نحو جيد.

كما أن عنصراً أخيراً وقف في طريق محاكمة زعماء «كمبوتشيا الديمقراطية»: هو التواطؤ القديم الجديد، العرضي أو المستمر، من جانب الطبقة السياسية الكمبودية بأكملها معهم. فقد تم دمج العديد من المسؤولين التنفيذيين في الخمير الحمر في الإدارة التي أنشأها الفيتناميون في بنوم بنه بعد السقوط، على غرار: تشيا سيم، هنغ سامرين، ورئيس الوزراء هون سين الذي كان قائد فوج. وكان الثلاثة قد فرّوا إلى فيتنام في 1977-1978 عندما بدأت عمليات التطهير الداخلية تهددهم.

يرصد الكتاب في جانب آخر المشاعر المتناقضة للرأي الكمبودي في ما يتعلق بهذه المحاكمات. كان انعدام الثقة عظيماً في البداية. إلى حدود العام 2008، كان 36% من السكان لا يعرفون ما هي محكمة الخمير الحمر. ولكن تدريجيً، بدأ كثيرون في متابعة بث الجلسات العامة، وأولئك الذين جرى استدعاؤهم بصفة مشتكين أو شهود شهدوا زيادة في مكانتهم في مناطقهم ومدنهم وقراهم.

كما تناوبت شبكة حافلات، بمبادرات أهلية، على جلب السكان من المقاطعات البعيدة من أجل حضور الجلسات. وفي القرى الكمبودية اليوم، ليست مواقف الفلاحين موحدة تجاه الكوادر الصغيرة السابقة في الخمير الحمر الذين عادوا إلى أراضيهم الأصلية. يحاول البعض التمسك بإيمانهم البوذي لتجنب السعي للانتقام، معتمدين على العدالة الجوهرية لقانون الكارما.

امتدت الصدمة الكبرى الأولى على شاشة التلفزيون على مدار الأيام الاثنين والسبعين التي استغرقها في العام 2009 استجواب كاينغ غويك إياف الملقّب بـ«دوتش»، الرجل الذي كان يدير سجن «تول سلينغ» في العاصمة حيث قضى نحو 15 ألف شخص تحت التعذيب بين 1975-1979. لم يصمت المتهم بل قدم دفاعاً فصيحاً، الأمر الذي شكل أيضاً الفرصة لتعريف عامة الناس بالإجراءات القانونية.

أما بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة، فإن تلك التي مالت بعد ذلك نحو المعارضة اهتمّت بتغطية الإجراءات على نطاق أوسع، وأظهرت أنها أكثر تقبلاً لمواقف القضاة الأجانب (كلهم غربيون تقريباً). أيضاً انتقدت تدخل السلطات في المناقشات القانونية.

لكن المحكمة فقدت هيبتها بسبب فساد القضاة الكمبوديين، وتكلفتها الباهظة مقارنة بقلة عدد الأحكام، ولا سيما المبالغ التي أنفقت على صحة المتهمين.