× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

بانتظار العودة إلى عفرين.. الثقافة تنشط في أرض النزوح

حكاياتنا - خبز 12-05-2024

رغم ظروف قاسية وإمكانات شحيحة يفرضهما النزوح، تشهد الحياة الثقافية نشاطاً ملحوظاً في قرى وبلدات ريف حلب الشمالي التي تضم مخيّمات النازحين من عفرين، وتطلق عليها الإدارة الذاتية اسم: منطقة الشهباء. أما الأهداف، فتكاد تُجمع تحت شعار «مواجهة تحوّلٍ تشهده ثقافة مجتمع عفرين في أرض النزوح»

في خيمة تفتقر إلى مستلزمات التدفئة في مخيّم برخدان الخاص بنازحي عفرين، يصغي أطفال يتوزّعون فوق قطع حصير إلى فنان تشكيلي يدرّبهم على فن الرسم باستخدام القلم الرصاص. وفي الخيمة الملاصقة، تتدرب مجموعة من الصبايا والشباب على أداء رقصة فولكورية كردية على أنغام أغنية شعبية. أما فرقة الغناء، فتقف في الخارج منتظرة دورها، لأن الخيمتين صغيرتان ولا تستوعبان أعداداً كبيرة.

في «منطقة الشهباء» بريف حلب الشمالي، يستمر المهتمون بالشأن الثقافي في تنظيم فعاليات يُراد منها تشكيل «ثورة فنية» هادفة، وهي تشتمل على مهرجانات للأفلام والمسرح والغناء والرقص، ومعارض للصور الضوئية واللوحات التشكيلية.

جاء ذلك بعدما تبعثر المهتمون والمهتمات بالمجالات الفنية والثقافية من تمثيل وإخراج وفن تشكيلي وعزف وإنتاج أدبي، وتوقفت النشاطات والفعاليات الثقافية لأشهر عدة بعد نزوح سكان منطقة عفرين في مستهل العام 2018 إلى «الشهباء»، في أعقاب عملية «غصن الزيتون» التي قادتها تركيا وأفضت إلى تشريد معظم سكان منطقة عفرين.

البداية من الصفر

لم تكد تمر ستة أشهر على النزوح، حتى شرعت رومات بكو وسبعة من أصدقائها في إعادة تنظيم عمل «كومين المسرح» من الصفر، وهي بمثابة نقابة للمسرحيين. كان الأمر تحدياً في منطقة جغرافية لا تزال آثار المعارك واضحة في كل بقعة منها، ووسط ظروف نزوح قاسية، وأوضاع أمنية ومعيشية سيئة للغاية، وإمكانات معدومة.

لكن في ذلك اليوم من العام 2018، جمع حبُّ المسرح رومات وأصدقاءها في خيمة بمخيم سردم في «الشهباء»، من أجل إعادة تنظيم أنفسهم من جديد، وإكمال ما كانوا قد شرعوا به في عفرين رغم الظروف الصعبة. ثم كانت البداية بعرض مسرحية للأطفال النازحين، حملت عنوان «ذنب الحصان» وتمحورت حول توعية الصغار على التمييز بين الأصدقاء الحقيقيين والسيئين.

تَرجع رومات التي تتولى مهمة إدارية في «كومين المسرح»، ستة أعوام إلى الخلف لتروي كيف تمرّنوا على المسرحية في خيمة صغيرة. تستعيد القلق الذي كان يثيره «سؤالنا أنفسنا دائماً: أين سنعرض المسرحية؟ فلا خشبة مسرح، ولا مكان للجلوس، ولا ديكور، ولا إضاءة، ولا أي شيء من عناصر المسرح».

قرروا في نهاية المطاف عرض المسرحية في خيمة كبيرة نصبوها بأنفسهم، وشيّدوا فيها خشبة مسرح مع ترك مساحة لجلوس الأطفال. أما بخصوص الملابس، فقد خاطوها من بطانيات المعونات.

تقول رومات «عرضنا المسرحية ثماني مرات في يوم واحد، لأن عدد الأطفال كان كبيراً فيما الخيمة ضيّقة». وترى أن «المثير للاهتمام في التجربة هو أن الجميع كانوا نازحين، من ممثلين، وكادر فني، وجمهور الأطفال وأسرهم... حتى خشبة المسرح مشيّدة في خيمة».
لكن رغم أن «كل شيء كان يدل على مرارة النزوح» وفق رومات، فإن «سعادة الأطفال بالمسرحية كانت تمنحنا القوة والأمل من أجل إكمال العمل في كومين المسرح».

هكذا، راح المهتمون بالثقافة، والعاملون في مجالها سابقاً في عفرين إناثاً وذكوراً، ينظمون أنفسهم وينشطون ويطلقون فعاليات وورشات تدريبية، بعد عرض «ذنب الحصان».

صعوبات وتحديات

كما كانت الحال في عفرين، تنتظم في أماكن النزوح «هيئة الثقافة والفن في مقاطعة عفرين والشهباء»، و«حركة الثقافة والفن»، و«حركة هلالا زيرين». تشرف «الهيئة» على الفعاليات العامة وترعاها وتمولها، فيما تتولى «الحركة» التنفيذ. وتختص «هلالا زيرين» بتنظيم نشاطات ثقافية خاصة بالمرأة.

تتبع «هيئة الثقافة والفن» خمسةُ مراكز متوزعة في الشهباء (في مخيم برخدان، وقرية زيارة في ناحية شيراوا جنوبي عفرين، وبلدة تل رفعت، وبلدة تل قراح، وقرية الأحداث). تضم هذه المراكز أقساماً خاصة بالرسم والموسيقا والرقص والغناء، وتتبع جميعاً الكومينات الرئيسة: كومين المسرح، وكومين الغناء، وكومين الرقص، وكومين السينما، وكومين الرسم.

«غدا الطفل أديباً، والعجوز شاعراً ... في كل خيمة تجدهم يزرعون شجرة، إذ حملنا الكثير من ثقافتنا إلى مكان نزوحنا»

تقول الرئيسة المشتركة لـ «الهيئة» حنان سيدو، إنه «منذ سيطرة تركيا على عفرين، ثمة منع وتشديد على الكورد وثقافتهم، حتى وجدنا أنفسنا مسؤولين عن حماية ثقافتنا لأننا بذلك نحمي تاريخنا وهويتنا ووجودنا وإرادتنا... الثقافة هي أساس الوجود».

غير أن مثل هذه الجهود تصطدم باستمرار القصف التركي وعمليات الفصائل المدعومة من أنقرة بصورة تكاد تكون شبه يومية، إلى جانب طوق تفرضه قوات دمشق. فتُلغى مشاريع ثقافية وأنشطة أو تعلّق، وكذلك تدريبات وبروفات «بسبب القصف والحالة الأمنية السيئة»، وفق سيدو.

غالباً ما تعجز الفرق الثقافية والفنية في المنطقة عن المشاركة في فعاليات ثقافية تقام في مناطق أخرى من شمال شرقي سوريا بسبب الحصار/الطوق، الذي يعرقل أيضاً مشاركة فرق تلك المناطق في مهرجانات تنظم في «الشهباء».

إلى جانب هذه التحديات، يفاقم الحصار/الطوق مصاعب أخرى قد تبدو لوهلة أقل شأناً. لكنها تجعل المراكز والمؤسسات الثقافية مفتقرة إلى أبسط مستلزمات العمل الثقافي، على غرار المواد والمعدات التي يحتاجها تنظيم الفعاليات والنشاطات في الشهباء. حتى أن ثمة مراكز لا يتوفر في أي منها سوى آلة موسيقية واحدة من أجل تدريب أطفال عديدين.

«الإمكانات ضعيفة جداً في الشهباء»، تقول سيدو، مضيفة: «الفرق تدرب نفسها لصعوبة فتح معاهد أو أكاديميات مختصة». لكن «رغم ذلك، نخلق فناً وإبداعاً من الألم والمعاناة».

وكانت «الهيئة» قد نجحت في العام 2020 بتنظيم «مهرجان ليلون السينمائي»، بمشاركة عدد من المخرجين المحليين وحتى عالميين، تحت شعار: «وردة بمفردها لا تشكل حديقة»، في الشهباء. وقد جاء التنظيم، وفق حنان سيدو، «رداً على الصمت الدولي تجاه ما يحصل في عفرين، فأردنا إيصال صوت مهجّري عفرين إلى العالم».

«كان بمثابة رسالة سينمائية إلى العالم»، تؤكد سيدو، بخاصة أن اللجنة المنظمة تلقت وقتذاك طلبات لمشاركة «2400 فيلم من 150 دولة». غير أن اللجنة اختارت «مشاركة 58 فيلماً» فحسب، في إشارة إلى عدد الأيام التي تعرّض سكانُ عفرين في خلالها للقصف، إبان العملية العسكرية التركية العام 2018.

غير أن تلك التجربة لم تستمر لأكثر من عام واحد، في ضوء «ضعف القدرة المالية»، على ما توضح سيدو. وتتابع: «هناك رغبة كبيرة في إقامته لمرة ثانية، ولكنه يحتاج ميزانية كبيرة».

في العام 2020، نظمت «حركة الثقافة والفن» مهرجان الرقص «سما»، وبعد عامين مهرجان «هاوار». ثم أحيت في العالم الحالي الموسم الخامس لمهرجان «ميتان»، وذلك بعد أربع سنوات على آخر دورة له، وبعد سنوات عدة على المواسم الثلاثة الأول التي احتضنتها عفرين قبل السيطرة التركية.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2021، نظمت «حركة هلالا زيرين» موسماً ثانياً لمهرجان الأطفال، تحت شعار «السلام يحلو بالأطفال». فعرض هؤلاء على مدار يومين مواهبهم الفنية المتنوعة، من رسم وغناء وعروض مسرحية وإلقاء شعر، وفق الإدارية في الحركة شيرين رشيد. وكان الموسم الأول لهذا المهرجان قد أقيم في عفرين العام 2013.

وفي أيلول/ سبتمبر 2022، نظمت الحركة نفسها الموسم الثالث، تحت شعار «الحرية تبدأ من الطفولة» وبمشاركة نحو 200 طفل.

وفي هذه النشاطات الثقافية كافة، يعتمد المنظمون مبدأ: «الجود من الموجود»، فيما «يُستغنى في مرات كثيرة عن مواد تحتاجها الأعمال الثقافية»، تقول المدربة في «كومين المسرح» زينب محمد.

تضيف: «نصنع أغلب المواد بأيدنا. نستخدم البطانيات والملابس المهترئة لخياطة ملابس الممثلين في العروض المسرحية».

تغيّرٌ في الأولويات والموضوعات

يلفت المخرج والكاتب، ابن عفرين، محي الدين أرسلان، إلى «تحوّلٍ تشهده ثقافة المجتمع العفريني وفنه في الشهباء». ويضيف: «في عفرين، وبعد انتشار التعليم باللغة الأم التي كانت من المحرمات سابقاً، بدت الحركة الثقافية والفنية تنحو منحى الأكاديمية، إذ شهدت المدينة افتتاح كثير من المعاهد التي تهتم بالموسيقا والفن، إلى جانب مؤسسات تولي الأدب اهتماماً يساعدها على البحث والإبداع».

يستدرك أرسلان: «غير أن النزوح جلب معه تحولاً في المفاهيم والتعاريف، فكنا في عفرين نركز على إعادة خلق الأدب الشفوي بطرق مختلفة للحفاظ عليه من الاندثار والنهب، ونعيد صياغته أدبا وفناً وشعراً وقصةً وروايةً وسينما ومسرحاً، فيما غدت للفن والثقافة مهمات أخرى في النزوح، وهي المقاومة بالحرف والوتر».

ويشير إلى أن «السنوات الأولى من النزوح شهدت الكثير من المطبوعات وبمختلف صنوف الأدب، تتحدث عما جرى وما سيجري وماذا يجب أن نفعل، إلى جانب أغنيات ومقطوعات موسيقية وأفلام سينمائية وعروض مسرحية تؤكد جميعها عمق الجذور، وتشحذ الهمم للمقاومة وكسر الصمت والحصار، وتزرع الأمل بالعودة».

«غدا الطفل أديباً، والعجوز شاعراً»، يقول أرسلان حاسماً. ثم يضيف: «في كل خيمة تجدهم يزرعون شجرة، إذ حملنا الكثير من ثقافتنا إلى مكان نزوحنا. في النزوح استطاعت الأقلام والأوتار والحناجر إحداث شقوق في سدود الصمت، فيما يجعل الحصار وسوء الأوضاع الحياتية وندرة متطلبات الحياة اليومية، الثقافةَ والفن في مدٍّ وجذر».

تتفق رومات مع أرسلان. فهي أيضاً لا يغيب عنها كيف أن محتوى العمل الثقافي تغيّر بعد النزوح: «كنا في عفرين نعمل على تطوير المسرح بشكل أكاديمي أكثر، ولكن بعد النزوح تحولت أعمالنا إلى تسليط الضوء على ما يعانيه نازحو عفرين في المخيمات، وكذلك تسليط الضوء على تاريخ الكورد وثقافتهم والتمييز العنصري الذي مارسه النظام بحق الكورد والأساطير الكردية».

بدوره، يختتم أرسلان كلامه قائلاً: «حين نزحنا عن ديارنا بفعل الحرب والاحتلال، أدركنا من المستهدف.. الهدف هم أطفال يتحدثون بلغتهم الأم، فنانون يطلقون الحرية لحناجرهم وأوتارهم، خشبة مسرح وعروض سينمائية ترفع عن التاريخ زيفه... هذا ما لم يرق للمستبد فاستهدفها، ومن الطبيعي حينها أن ندافع عن ثقافتنا وفننا عبر إقامة المهرجانات».